الرباط – (د ب أ):
م تكن أمسيات شرق إفريقيا في أغسطس عادية. المدن الثلاث المضيفة، نيروبي ودار السلام وكمبالا، عاشت على وقع أصوات الطبول والهتافات الإفريقية التي امتزجت بنبض المباريات في بطولة كأس أفريقيا للمحليين.
وسط هذا الصخب، كان المنتخب المغربي يخط لنفسه سطور حكاية جديدة، رحلة بدأت بارتباك وتحديات وانتهت برفع الكأس للمرة الثالثة في تاريخه.
المشهد الأخير كان مهيبا، ملعب ممتلئ وأعلام تتمايل وأصوات الجماهير تهتف بأسماء لاعبين لم يكونوا قبل أسابيع سوى نجوم في الدوريات المحلية، أمام منتخب مدغشقر الطموح، خاض أسود الأطلس نهائيا مفتوحا وساخنا انتهى بثلاثة أهداف لهدفين، مباراة تشبه في حكايتها كرة القدم الإفريقية نفسها: مليئة بالمفاجآت وعامرة بالروح القتالية ومشبعة بالجمال غير المتوقع.
في قلب هذه القصة يقف المدرب طارق السكتيوي، الرجل الذي تحول إلى بطل رواية البطولة، كان يعرف منذ البداية أن الرحلة لن تكون سهلةـ فقد خسر عشرة لاعبين دفعة واحدة في اللحظات الأخيرة بعدما انتقلوا للاحتراف خارج المغرب، وتوالت الإصابات والتوقيفات التي أرغمته على إعادة تشكيل الفريق في كل جولة تقريبا، لكنه لم يتراجع بل صنع من هذه الفوضى فرصة لإعادة الابتكار، يوزع القبلات بسخاء على لاعبيه في التدريبات والمباريات ويمنحهم الثقة، ويحتفل معهم بالسجود عند كل هدف، وكأن كل لقطة كانت دعاء مستجابا في رحلة شاقة.
أما اللاعبون، فكانوا أبطال الحكاية الصغار الذين كتبوا فصولها بعرقهم، فالحارس مهدي لحرار وقف شامخا في مرماه، يبعد الكرات بثبات من يريد إثبات نفسه على الساحة الكبرى، يوسف بلعمري جسد قوة الدفاع الصامدة، فيما تألق أسامة المليوي كقناص لا يرحم، يتصدر قائمة الهدافين ويهدي المغرب هدف التتويج الساحر الذي سيبقى محفورا في ذاكرة الجماهير.
وفي كل لحظة حرجة كان هناك محمد ربيع حريمات، القائد الملهم الذي يتحدث لغة الميدان أكثر مما يتحدث لغة الكلمات، يوزع الحماس على زملائه ويضبط إيقاع اللعب حتى استحق عن جدارة لقب أفضل لاعب في البطولة.
ومع كل انتصار، كان ظل مدرب المنتخب الأول وليد الركراكي يلاحق المشهد، الانتقادات التي لاحقته بسبب تهميشه بعض اللاعبين المحليين تحولت إلى جدل ساخن، فها هم اللاعبون الذين تجاهلهم يثبتون أنهم قادرون على حمل القميص الوطني بجدارة وعلى مدرجات البطولة، لم يكن الخبراء الأفارقة يخفون إعجابهم بهذا الجيل المغربي الجديد الذي أطل من نافذة “الشان” ليفرض نفسه على الباب الكبير للمنتخب الأول.
رحلة المغرب بين المدن الثلاث لم تخلُ من العثرات، الخسارة الوحيدة أمام كينيا كانت لحظة سقوط قاسية، لكنها تحولت بسرعة إلى درس ثمين، في اليوم التالي، كان الفريق مختلفا وأكثر صلابة وإصرارا، بل أكثر وعيا بأن البطولة لا تعترف إلا بمن يحسن التعلم من هزائمه.
ومثلما تغيرت ديناميكية الفريق، تغيرت أيضا صورة البطولة نفسها، فقد ارتفعت قيمة الجوائز المالية لتصل إلى 5ر3 مليون دولار للبطل، بإجمالي 10.4 مليون دولار موزعة على المشاركين، وأزيح الستار عن كأس جديدة أنيقة، من ذهب وفضة، تتزين بخطوط تمثل الدول الإفريقية جميعا، تتوسطها خريطة القارة، كأنها تذكر الجميع أن كرة القدم هنا ليست مجرد لعبة، بل مرآة لوحدة شعوب.
ولأن البطولة لا تقاس بالكؤوس فقط، بل بالقصص التي تخلقها، كان صدى كلمات النجم الكيني فيكتور وانياما يرافق الأجواء: “الشان هو بوابة إفريقيا إلى عوالم كرة القدم الكبرى”.
حين رفع المغاربة الكأس في النهاية، لم يكن المشهد مجرد تتويج رياضي، بل إعلانا عن ميلاد جيل جديد من اللاعبين الذين جاءوا من أحياء المغرب ومدنه الصغيرة ليحكوا للعالم أن كرة القدم لا تحتاج دائما لأضواء أوروبا كي تلمع. لقد كانت بطولة 2024 أكثر من منافسة، كانت حكاية انبعاث وثقة وأمل، وسيبقى لقب المغرب فيها شاهدا على أن الرهان على المحليين هو الطريق الأقصر نحو صناعة المستقبل.