صحة وتغذية

نظريات علمية متضاربة تفسر معنى الوعي عند الإنسان

نيويورك-(د ب أ):
في مجال العلم والدراسة، تجرى كثير من الأبحاث المثيرة في الوقت الحالي، ومن بينها سلسلة من التجارب التي تهدف في نهاية المطاف إلى زيادة الوعي البشري، بالمعنى الحرفي للكلمة.

ويوضح الكاتب أندرياس كلوث في تقرير نشرته وكالة بلومبرج للأنباء أن الهدف من هذه التجارب هو فهم معنى “الوعي” بشكل دقيق وكذلك كيفية عمله، والرد على تساؤلات مثل هل تمتلك الحيوانات وعيا، وهل يمكن أن يخسر الانسان الوعي، وما إذا كان من الممكن أن تكتسب الآلات وعيا ذاتيا عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي.

وتجرى التجارب الجديدة وفق منهج علمي يعرف باسم “التعاون بين أصحاب الآراء المتناقضة”، فالبشر عادة تكون لديهم نظريات عديدة لتفسير الأشياء المختلفة، وبالطبع لا يمكن أن تكون جميع هذه النظريات صائبة. ولكن كثيرا من النظريات تعيش وتستمر إلى أجل غير مسمى داخل ما يعرف باسم “الصوامع الفكرية”، ومن هنا قد يكون الحل هو دعوة أصحاب الأفكار المتناقضة للتعرف على نقاط الاختلاف بينهم واخضاعها للدراسة، وهو ما قد يسمح للباحثين بتحديد النظريات الخاطئة، وبالتالي تحقيق نوع من التقدم العلمي.

وتريد مؤسسة “تمبلتون العالمية للأعمال الخيرية” الرد على بعض من أهم الأسئلة الي تشغل العقل، ولاسيما تلك التي تقع في دائرة العلم والروحانيات في آن واحد، ومن بين هذه الأسئلة مفهوم الوعي الذي حير البشرية وأثار دهشتها لسنوات طويلة، ولعل أشهر من تطرق إلى هذه الفكرة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت صاحب عبارة “أنا أفكر.. إذن أنا موجود”.

ويتساءل كلوث قائلا: “لماذا يمتلك البشر وعيا في المعتاد؟ وما الذي يحدث عندما نفقد هذا الوعي، في حالات الغيبوبة أو النوم العميق على سبيل المثال أو أثناء السكتات الدماغية أو عند التخدير؟ لماذا لا تؤدي إصابة المخيخ الذي يحتوي على 69 مليار من بين 86 مليار خلية عصبية داخل المخ إلى فقدان الوعي، في حين أن تلف جزء آخر من المخ قد يتسبب في غياب الوعي؟”.

ويطرح كلوث مزيدا من الأسئلة بشأن الوعي، فيتساءل هل يمتلك الأجنة أو المواليد وعيا، وهل القردة أو النحل أو ذباب الفاكهة لديها وعي، وأخيرا ماذا عن الآلات التي نصنعها أو المعادلات الخوارزمية التي نبتكرها وتستطيع أن تهزمنا في لعبة الشطرنج أو توجه السيارات ذاتية القيادة، هل من الممكن أن تمتلك وعيا يوما ما؟

ويقول الباحث الجنوب افريقي داويد بوتجيتر الذي يدير مشروع مؤسسة تمبلتون إن فريقه البحثي نجح في تحديد مجموعة من النظريات القابلة للتصديق بشأن الوعي، ثم جمع هذه النظريات في صورة ثنائيات بحيث يمكن من خلال التجارب دحض نظرية واثبات الاخرى المقابلة لها. ويجري تنفيذ هذا النهج البحثي حاليا في ستة مختبرات تنتشر ما بين أوروبا والولايات المتحدة والصين، ويقوم كل مختبر بتكرار نفس التجارب على المشاركين من أجل تلافي احتمالات الخطأ، أما النظريتان قيد الدراسة فهما “نظرية مساحة العمل العالمية” التي يؤيدها الباحث ستانيسلاس ديهاني من الكلية الفرنسية في باريس، والأخرى هي “نظرية المعلومات المتكاملة” التي يؤيدها جوليو تونوني من جامعة ويسكونسن الأمريكية.

وتشرح الباحثة لوسيا ميلوني من معهد ماكس بلانك البحثي في مدينة فرانكفورت الألمانية نظرية “مساحة العمل العالمية” قائلة: “تخيل لو أن نظامك العصبي يجلس في مسرح كبير، وجميع الخلايا العصبية تقبع في الظلام تتهامس وتتجاذب الحديث، ولكنها ليست واعية لأي شيء، ثم فجأة يصعد شخص ما على خشبة المسرح ثم تضاء جميع الأنوار، وهذا الشخص هو “مساحة العمل” الذي يجذب انتباه الخلايا العصبية ويوجه لها رسالة معينة، فالشعور الذي يعتمل في النفس عند تلقي هذه الرسالة هو الوعي.

أما “نظرية المعلومات المتكاملة” التي يؤيدها تونوني، فهي لا تنظر إلى الوعي كما لو كان رسالة، بل باعتباره شبكة معقدة من العلاقات السببية، ويشرح تونوني فكرته قائلا إن شبكة الخلايا العصبية هي مثل خريطة ثنائية الأبعاد لمدينة ما، ولكن من أجل أن يتلمس الانسان هذه المدينة ويدركها بشكل فعلي، فلابد أن تتكامل جميع هذه الخلايا العصبية لتأخذ شكلا ثلاثي الأبعاد، وأن تترك كل خلية تأثيرها على الخلايا الأخرى، ومن هنا يأتي الشعور بالوعي.

ويختلف كل من تونوني وديهاني أيضا فيما يتعلق أيضا بالجزء المسؤول عن الوعي داخل مخ الانسان، حيث يرى ديهاني أن القشرة الجبهية هي المسؤولة عن معظم هذا النشاط، في حين يعتقد تونوني أن الجزء الخلفي من المخ هو الذي ينشط عند القيام بهذا العمل الذهني، ومن هنا لابد أن تكون إحدى النظريتين صحيحة والأخرى خطأ.

ويؤكد الباحثون أن التنافس بين النظريات العلمية يتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة والاستقامة العلمية، فلا أحد يريد أن يكتشف أن رحلته البحثية كانت بلا طائل، ولكن الشيء الاسوأ بالقطع هو أن يستمر الباحث في الخطأ، وبالتالي فإن التعاون بين أصحاب الآراء المتناقضة يعتبر وسيلة رائعة لتركيز الذهن.

وتبدي ميلوني اعجابها من مساعي كل من الفريقين لفهم نظرية الفريق الآخر من أجل تحديد نقاط الاتفاق معها، وتقول: “لابد أن تكون أمينا تماما مع ما يقوله الطرف الآخر… فلا يمكن أن تقبع داخل فقاعتك، ولابد أن تنصت باهتمام حقيقي، وينبغي أن تكون لديك رغبة في الاعتراف بالحقيقة في نهاية المطاف”. وهو ما يبدو كتدريب جدير بالتعميم في شتى مناحي الحياة، بما في ذلك في معترك السياسة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى