مرئيات

بحارة الإمارات في زمن الغوص

بقلم : محمد عوض الجشي

 

ها هو المحمل، شراع يشق عباب البحر، موج متصادم تصارعه الرياح، وتشتعل عواصف الزمهرير هضاباً من ثلوج .. وها هم البحارة أحكموا الرباط، وشدوا وثاق الأبواب، رٌصوا كجلمود صخر، وإذ صوت النوخذة يصدح .. آه يا نهام، يا مال يا حلال .. رويدك، الصيد وفير والخير كثير والرب نصير.
نعم .. مضى المحمل رغم العواصف الهوجاء، ومع اشتداد الرعود وقصفها اللامحدود، أمر النوخذة الرجال البحارة بالإمساك بالأوتاد، والتشبث في الألواح، وفردوا المجاديف، العاصفة وحش جموح، والجزيرة بعيدة المدى لا يصلها الصدى.
تلاطم موجي كالجبال .. يموج المحمل ويتراقص البحارة، وتعلو الآهات والزفرات والصرخات، وما يزال صوت النوخذة يصدح مقاوماً معانداً غضب الرياح وتقلبات الطقس. إنه يصدح بصوت عالٍ تغلغل في جنبات الموج وصفحات الماء «عندك بحرية يا ريس، سمر وشرقية يا ريس .. و البحر كويس يا ريس، وصلني حبيبي يا ريس» .. وما إن سمع البحارة تلك الأرجوزة حتى ارتفعت معنوياتهم، وشمخت الأنوف إلى المعالي، وقرروا التحدي وركوب الصعاب ومواجهة المتاعب والتفرغ للمعاناة.
إنها صيحات بطولة ومؤازرة جماعية تتعاضد وتتكاتف للوصول إلى النجاة، والفوز برزق طيب مبارك إثر العزم والإقدام والمبادرة .. العمل العمل، هو صنو الحياة وديدن العاملين المخلصين ودأب العمال والفلاحين الذين يحرثون في أرض، بحر، وسماء .. إنه حرث باركه الرحمن وباركته الكائنات كي يعمر الكون وتصير الحياة أحلى وأجمل عطاء ونماء.
نعم ما فتئ البحارة والنوخذة متوحدين قائمين مسترسلين متضامنين يمضون في المحمل (السفينة) إلى بر الأمان في صيد وفير .. إنها الشباك التي حملت حوريات البحر، والتي صارت تتلوى كأجمل العرائس، حيث غدت ملكات الجمال الأرضية نجمات مرصعة في جبين تلكم الحوريات، إنهن عطاء من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء النفر من البحارة العشرة الذين نذروا أنفسهم للعمل الجاد والإخلاص المتفرد والإقدام الفذ. إنه البحر الذي (في أحشائه الدر كامن، فهل سألوا الغواص عن صدفاتي).
نعم بحر ونوخذة وبحارة ومحمل خير وسفينة ألواحها متعاضدة قوية متماسكة، كل في بوتقة واحدة وصيرورة متماسكة وتعاضد جامح متفرد. سويعات وهدأت العاصفة واستسلمت الرياح العاتية لصوت النواخذة، واكتنفتها السكينة والهدوء، وانبلجت أعين السماء بصحو دائم، وبزغت الشمس أكثر توهجاً وإشراقاً، وفتح البحارة الأبواب، وأوقدوا مواقد الشواء، وتقاسموا أرغفة الخبز المرقوق، واستطابوا اللقيمات وأكلات الآباء والأجداد، (عصيدة وخبيصة وبلاليط) .. إنها طعم ونعم الطعم، وإذ أطباق (الهريس) تستطيبها الأفواه صحة وعافية، إنها الجزيرة رسا في كنفها وبهوها المحمل، شدوا الحبال وأوثقوا المراسي، وما يزال صوت النواخذة يصل إلى المدى مردداً: يا بحر الأماني يا لاهج اللسان، يا موئل الشطآن ..
«بس يا بحر» .. لحظات ,وقد أسند النوخذة رأسه تجاه القبلة، وراح في غفوة أبدية، وتستمر أهازيج البحارة العشرة صادحين في المدى والصدى .. «بس يا بحر» .. «بس يا بحر».انهم احفاد بن ماجد الإماراتي العربي الاصيل حفر اسمه في سجل الخالدين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى