تحدث مقالي السابق عن أهمية تقصي المبادرات القيادية ذات الطابع الثقافي في سبيل إثراء دراسات القيادة لا سيما من حيث تجديد روافد الفكر الغربية عبر مقارنتها بفكر الثقافات الأخرى. واستدللتُ بمقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان – ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة – “لا تشيلون هم”، وذلك في سياق الثقة كقيمة قيادية بين القائد ومن هم في رعايته. وما يضيفه مقال اليوم أن تفعيل هذه المبادرات لا يقتصر فقط على إثراء الجانب الغربي من دراسات القيادة بل إنه مطلب ملح في فهم وتأريخ ديناميكيات القيادة في مجتمعاتنا الحالية والتاريخية. بمعنى آخر أن تنظير المبادرات القيادية في الإمارات والمنطقة كفيل بتأسيس إرث علمي مستقل يساهم بالمقام الأول في تأهيل أجيال المستقبل قيادياً وفق موروثاته الثقافية والحضارية مع الاستفادة من مساهمات الثقافات الأخرى في هذا المجال.
وتزخر الدراسات الغربية بكم كبير من البحوث التي تؤرّخ الأداء القيادي لشخصيات تاريخية رائدة في حضارتها. ولا أقصد هنا كتبَ السير الذاتية أو الغيرية المجرّدة لهؤلاء القادة وإنّما أقصد الكتب التي تنتهج منهجيات مؤصّلة نظرياً. ومن الأمثلة الحاضرة لتلك الدراسات ما ألّفه كل من جوناثان غوسلينغ وستيفاني جونز حول قيادة الأميرال البريطاني الشهير “هوراشيو نيلسون”. وقد عنون الباحثان كتابهما بـ ” نهج نيلسون: دروس في القيادة من القائد العسكري العظيم”، ولا يخفى انحيازهما للأميرال نيلسون ويدافع المؤلفان عن تأثرهما هذا بأن سيرة الأميرال تلهم دروساً قابلة للتطبيق بشكل كبير في عصرنا الحالي رغم مضي قرنين من الزمن على أحداثها ووقائعها.
والمميز في الكتاب أنه يهدي المتلقي إلى قراءة ديناميكيات القيادة والإدارة في نهج نلسون وفق نظريات ومصطلحات عصرية. ولم يسلم الكتاب من نقد يعزّز تباين الآراء المفيد، فهناك مثلاً من ينتقد انبهار المؤلِفَين بشخصية الأميرال نلسون. وهناك من يوصي بقراءة مذكرات الأميرال ورسائله الشخصية ليتعرف بصورة واقعية أكثر على خدماته العسكرية ودوافعه السياسية والثقافية. وأخيراً هناك من ينتقد عدم تمكنهما من ربط مواقف الأميرال القيادية بنظرية محدّدة من نظريات القيادة. ولكن يبقى اجتهادهما جديراً بالاحترام كجهد تنظيري مدعوم بخبرتهما العملية في مجال التوجيه والإرشاد القيادي ممّا يعكس جدية محاولتهم في التوفيق بين ديناميكيات القيادة والإدارة التي تزخر بها سيرة الأميرال وبين تحديات بيئات العمل المعاصرة في المجالين.
fmka@diwanlrc.com