صباح الخير يا معلّم.. صباح الخير يا “سلطان الملاح”..

لم أحزن بما يكفي البارحة، ولا بكيت، ولا هيّجتني كلمات الرثاء.
فأنت باقٍ معي؛ أستاذاً ومُرشِداً وصديقاً ونديماً.
كنتَ بوّابتي نحو جلِّ ما أحبّ، نحو بعض ما أنا عليه الآن، ونحو الكثير مما أصبو إليه.
بفضلكَ، ما زلتُ أحيا في زمن عمر البطش وكميل شمبير ومجدي عقيلي وبكري الكردي وعلي الدرويش. بفضلك، عَلَتْ في عَيني ومعرفتي منزلة أبي خليل القباني، الرائد والهائل. أنتَ الذي أكملَ التاريخ، وحملَ إلينا أسماء هؤلاء العظماء وتَرِكاتهم الجليلة لتعيشَ في وجداننا وأذهاننا. ولولاك، لاندثر الاهتمام بهم وتوقّفَ تداول مُنجَزِهم المَدين لك للأبد.
بفضلك، أجيالٌ بملايينها تعلّمت الموسيقى والعزف والأداء والغناء. وصارتْ أعمالك دليلاً لفرز المقامات وتدريسها والقِياس عليها.
بفضلك، اقتربتُ من حقول مغايرة للبحث والقراءة، وارتدتُ آفاقاً رحبة للمتعة والاكتشاف. فقادني حبّك والاستماع إليك إلى مطالعة كتب صميم الشريف وفؤاد رجائي وجميل ولاية. وجلستُ في الأماسي أعيدُ بلا ملل مشاهدةَ حلقات “نغم الأمس” و”العرب والموسيقى”، وأصفّق مثلكم، أنت ود. سعد الله آغا القلعة وزهير منيني وحسن بصّال وكل الحاضرين وقتَها، لأفهم رقصَ السماح، وأشربه، وأمدحه كأرقى تعبيرٍ عن تماهي الروح مع الحواس.
بفضلك، تمتّنت علاقتي بالشعر، وعدتُ إلى دواوين بهاء الدين زهير ولسان الدين بن الخطيب وابن زهر الأندلسي والبوصيري وابن سناء الملك.
بفضلك، عرفتُ أن لأيّ نصّ موسيقى داخلية، وهي غير اللحن، نلتقطها بقدر ما نملك من صفاءٍ وحسٍّ فنّي.
بفضلك، أحببتُ لغتي أكثر، دنوتُ منها ومن معاجمها لأبحث عن معاني كلمات مثل: “الزِّق، السَّجْف، الواني، الشَّمول…” أنتَ الذي لا يقول حرفاً إلّا بعد دِراية عميقة، فينطقه باقتدار كما ينبغي، مُبَجِّلاً اللغة وقواعدها، ومُعلِيَاً أهمية العقل وفهم الكلام.
بفضلك، بحثتُ عن أحكام التجويد، لأفسّر سرَّ لفظك الآسر ولأعرفَ، مثلاً، أين سقطتِ النون وكيف أُدغِمَتْ في: “يا مَـ يّرى أدمعي…”
بفضلك، قرأتُ في القرآن واقتربتُ من الإسلام. الإسلام بما هو إخلاصٌ في العمل، حِفْظٌ للمفيد من الماضي والتراث، فخرٌ بجميلِ الأصل والفصل، احتفاءٌ بالدنيا والحب والفرح والحياة، وإسعادٌ للناس.. كل الناس.
بفضلك، زادَ جمالُ ستّ الستات “حلب” الحبيبة والعظيمة. أعطيتَنا، نحن أبناءها، أسباباً قاطعة وحتميّة لنحبّها ونزهو بها أكثر وأكثر. وقدَّمْتَها للعالم أجمع كما يليقُ بملكة خُرافيّة يعجزُ عن إدراكها التاريخ.
“خسارة كبيرة” ما انفكّ المحزونون على رحيلك عن تردادها، أفهم قولهم. ولكن، بالنسبة لي، رحيلُك خسارة كبيرة على المستوى الإنساني والعاطفي، حتماً، أمّا على المستوى الفنّي فالخسارة هي نحن.
أنتَ قدّمتَ خلال 88 عاماً مُنجَزاً يكفي 188 عاماً ويفيض. فكنتَ وحدكَ مؤسسة، بمشاريع وأفكار وتنظيم وذكاء وإدارة وإنجازات تعجز عنها مؤسسات قائمة بأكملها.
درستَ واجتهدتَ وأخلصتَ وواظبت. حافظتَ وصنتَ واحترمت. ابتكرتَ وأبدعتَ وجدّدتَ وخلقت. أعطيتَ فأدهشت.
ونحن، هل أوفَينا هذا المنجز حقّه؟ هل فهمناه وحفظناه واستوعبناه كما ينبغي؟ هل دقّقنا في تفاصيله المذهلة والكثيرة؟ هل أرشفناه وأوجدنا طُرُقاً وافية ولائقة لحراسته وتداوله ونقله؟
الخسارة كبيرة إن لم نفعل وإن لم نسعَ لكي يفعلَ أبناؤنا. الخسارة كبيرة إن اكتفينا بكلمات رثاء ومنشورات عابرة ودقائق صمت. الخسارة كبيرة إن بَقينا نصفّق في حفلاتنا وإعلامنا لمغنيين مُستَهترين، لا أصوات ولا لغة ولا فهم ولا علم ولا أصول.
الخسارة كبيرة إن أهمَلْنا أو تسامحنا، وتركنا مكوّناً أساسياً من مكوّنات هوّيتنا الجميلة يمضي من دون أن نجعله ثابتاً وصحيحاً ودائماً.
صباح فخري كفّى ووفّى… صباح فخري ما قصّر… ولم يكن هناك ما ننتظره، على المستوى الفنّي، أكثر وأعظم ممّا فعل. لذا، فالخسارة الكبيرة ليست أننا حُرِمنا من إبداع مُحتَمَل وقد بلغ الرجل من العمر والتعب الجسدي ما بلغ. بل الخسارة هي ألّا نكون جديرين بما تركه لنا من “ماتَ الكرم بعدهم والعزّ والجود”.
صباح فخري “يا وحيد الغيد.. يا فريد عصرك” لروحك التي سَبَقتنا لتكشفَ سرَّ الموت كما كشفَتْ قبلَنا ولنا أجمل أسرار الحياة، بالحلبي… ومن عند الصبح: “أبوس روحك” أينما كانت.