تعتبر “الثقة” من المتحولات الهامة في علاقات القائد وأفراده، فالثقة امتداد وانعكاس لمعايير مثل النزاهة والشفافية والقوة ووضوح الرؤية والأهداف على المستويات الشخصية والمؤسسية والمجتمعية. فلا عجب إذن أن يهتم باحثوا علوم القيادة وخبراءها في هذا المتحول من خلال بحوث ودراسات تستكشفه في سياقات مختلفة لربما أهمها ما يتعلق بديناميكيات العلاقات. ومن بين هذه الدراسات تلك التي قام بها باحثون معروفون مثل “نانوس، 1989″، و”وجونغ وأفليو، 2000” والتي ربطت بين الثقة في علاقات القائد والأفراد ومخرجات مؤسسية مثل سلوكيات المواطنة المؤسسية والأداء الوظيفي، والرضا الوظيفي. والحقيقة أن للثقة تأثير أبعد من ذلك لا سيما عند تأطيرها كقيمة أخلاقية متبادلة بين القائد والأفراد، لأن هذا التأطير يسلط الضوء على الثقة في شخوص وسلوكيات القادة والأفراد على حد سواء. فتخرج الدراسات بذلك من الحصر الدارج – للأخلاق والفضائل عموماً والثقة خصوصاً – في شخوص وسلوكيات القادة فقط.
ولعل ما تناولته الصحف منذ أيام معدودة عن تجربة فيتنام الناجحة في مواجهة أزمة كورونا والحد من تفشيه إحدى الأمثلة الحديثة التي تؤيد مثل هذا التوجه التنظيري. فقد فاجأت فيتنام العالم بقدرتها على السيطرة على مستوى إصابات كورونا وإبقائها منخفضة رغم التوقعات بكونها إحدى الدول التي ستعاني من ارتفاع كارثي في عدد الإصابات والوفيات. ويعزو الباحثون ذلك إلى الثقة بين الشعب الفيتنامي وحكومته كعامل نجاح أساسي، وهذا ما يؤكده توماس بوليكي الخبير العالمي في الصحة العالمية والاقتصاد والتطوير ومدير برنامج الصحة العالمية التابع لمجلس العلاقات الخارجية “Council on Foreign Relations” قائلاً: “ما تمتلكه فيتنام، هو أنها تتمتع بثقة عالية جداً في الحكومة، حيث يثق الشعب بالسلطة الحاكمة”.
وجانب المفاجأة في تجربة فيتنام بحسب الباحثين أن ثقة الشعب بالسلطة لم يكن من بين المؤشرات المتعارف عليها في قياس الأمن الصحي لا سيما حين المقارنة بأداء دول أخرى متقدمة. ومن أمثلة تلك المؤشرات: فعالية الحكومة، والرعاية الصحية الشاملة، ومقاييس التأهب للأوبئة، والثقة في العلم. ولكن الباحثون هنا يحصرون المقارنة بين التجربة الفيتنامية وتجارب دول متقدمة محدودة، بيد أن المقارنة لو بُسطت لتشمل أداء دول أخرى ليست بالضرورة متقدمة لجاءت الدراسات بمخرجات بحثية يعول عليها أكثر. فحصر القياس هنا غير عادل للطرفين، فهو يحصر فيتنام في تقليدية نظامها الاجتماعي والسياسي، ويُعرّف الدول المتقدمة من حيث قوتها المادية والعلمية مقابل تقاليدها الديموقراطية. ولكن يبقى المخرج الثابت والأهم لدراسة تجربة فيتنام هو الكشف عن أهمية الثقة في ديناميكيات القيادة لا سيما في أوقات الأزمات وأهمية سبر تأثيراتها على العلاقات بين قادة المجتمع وأفراده بشكل يتساوى فيه الاثنين من حيث قوة التأثير.