أخبار عربية ودولية

عصر النهضة اليابانية

بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*

 

في عام 1867 خرجت الجزر اليابانية من العزلة التي ضُربت عليها في عهد توكوقاوا. وكانت دولة موحدة إلا أنها متخلفة عن غيرها من دول العالم. ولكن خلال (40) عاماً تمكن اليابانيون من اللحاق بالقوى العظمى آنذاك. كان أوكوبو في مقدمة مجموعة الساموراي (قادة ميجي) ، الذين قادوا اليابان إلى الحداثة باسم الإمبراطور ميجي الذي كان في الخامسة عشر من عمره.

ولد أوكوبو توشيميشي في 26 سبتمبر 1830 في مدينة كاقوشيما الواقعة في جزيرة كيوشو. كان أوكوبو يدرس الثقافة الصينية والتاريخ في الصباح ويتدرب على الجودو والتايكواندو وفن الحرب في الأمسيات. لم يكن أوكوبو رياضياً إلا أنه كان مناقشاً بارعاً، واستطاع أن يكسب صداقة “سايقو تاكاموري” أحد القيادات التي اشتهرت في تلك الفترة. كان موظفو حكومة كاقوشيما بحكم موقع جزيرتهم قبالة السواحل الصينية ، يدركون مخاطر الغزو الأوروبي على اليابان ، لذا كانوا يقومون بشراء الأسلحة من أموال الحكومة. ولم يكن تصرف الموظفين مقبولاً لدى البعض. في عام 1849 اكتشفت الحكومة مؤامرة سياسية دبرها الموظفون وكان بينهم والد أوكوبو الذي تم نفيه إلى جزيرة نائية. ولما كان أوكوبو مساعداً لوالده تم فصله من عمله ووضعه تحت الاعتقال المنزلي لمدة ستة أشهر.

في عام 1853 وصل كمودور البحرية الأمريكية “ماثيو برَّي” إلى خليج طوكيو ، حاملاً رسالة من الرئيس الأمريكي ميلارد فيلمور تطلب من اليابان التخلي عن عزلتها وفتح موانئها للسفن الأجنبية. استجابة للطلب الأمريكي فتح اليابانيون أبواب التجارة الخارجية وأقاموا ستة موانئ في عام 1854. ووقع “الشوقن” اتفاقيات غير متوازنة مع بريطانيا ، فرنسا ، هولندا ، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في عام 1858. وقد اعتبرت المعاهدات الموقعة مخالفة للسيادة اليابانية. عارضت الغالبية من السكان الاتفاقيات وطلبوا إبعاد الوزراء الذين وقعوا الاتفاقيات. وجاءت هذه التعديلات لصالح أوكوبو ووالده حيث تم الإفراج عنهم بواسطة الأمير الجديد الذي عين في محافظتهم ساتسوما. وعين أوكوبو مفتشاً في مصنع للأسلحة ، ولكن بوفاة الأمير الذي قام بتعيينه فقد أوكوبو وظيفته.

كوَّن أوكوبو فريقاً من (40) من الساموراي وبدأ يخطط لاغتيال وزراء “الشوقن”. ولما بلغ الخبر إلى أمير محافظة ساتسوما ، اتصل الأخير بأوكوبو طالباً منه إرجاء خطته بعض الوقت ، واعداً بمساندته. وأفق أوكوبو على عرض أمير المحافظة الذي عينه مساعداً لأمين الخزانة. وسرعان ما ظهرت قدرات أوكوبو الإدارية ليصبح أحد كبار مستشاري الأمير. في عام 1862، زحف هيسامتسو إلى أدو (طوكيو) ، على رأس ألف من رجاله وطلب من “الشوقن” إقالة بعض الوزراء الفاسدين والعفو عن السجناء السياسيين. وبالفعل وافق الشوقن على طلبات هيساميتسو ، ولكن ما تحقق كان دون ما كان يتطلع إليه أوكوبو ومجموعته. كان أوكوبوا ومجموعته ينادون بإبعاد الغربيين البرابرة، الذين بدأوا يعدون العدة للمواجهة ، ولكن وضح لأكوبو من خلال المواجهات أنه ليس من الممكن الانتصار على الغربيين، لأنهم يملكون أسلحة تفوق الأسلحة اليابانية. لذا عدل أوكوبو عن رأيه وقرر الاستفادة من الغربيين بدلاً من إبعادهم. وهكذا حل شعار الاستفادة من الغرب محل شعار العزلة.
في عام 1867 توفى الإمبراطور وخلفه على العرش ابنه البالغ من العمر (14) عاماً، والذي عرف فيما بعد بالإمبراطور “ميجي” أي الحكْم المستنير. ولصغر سن الإمبراطور الجديد أصبحت السلطة الفعلية في يد إيواكورا تومومي الذي أصبح أحد حلفاء أوكوبو المقربين. في عام 1868 تمكن أوكوبو بالتعاون مع بعض القادة من دعم الإمبراطور ميجي وتمكينه من إصدار قرار إلغاء الشوقن وتعيين مجلس رئاسي أعلى جديد للحكم يضم عدداً من النبلاء ، ومجلس أدنى يضم نواب ووزراء وبعض الساموراي الأقوياء. وقد ضم المجلس الأدنى أوكوبو وسايقو وكايدو وإتو. وفي عام 1869، أطلق على إدو اسم طوكيو كعاصمة ونُقل إليها الإمبراطور في العام التالي.

أدركت القيادة الجديدة عدم إمكانية بناء دولة حديثة ذات حكومة مركزية ما لم تكن لديها عائدات مباشرة. وقد طلب المجلس من الأمراء البالغ عددهم 261 أميراً تسليم أراضيهم للحكومة المركزية من أجل الصالح العام. في مارس 1869 قام عدد من الأمراء الأقوياء بتسليم أراضيهم للحكومة المركزية طوعاً. وكانت مبادرة الأمراء الأكثر قوة دافعاً لغيرهم في العمل على تسليم أراضيهم وعائداتها للحكومة. في عام 1871 ، كون أكوبو وكايدو جيشاً جديداً قوامه (10) آلاف رجلاً تحت قيادة سايقو. وكانت تلك بداية أول جيش إمبراطوري خاضع للحكومة المركزية تماماً. وعلى إثر إنشاء الجيش الإمبراطوري أصدر أوكوبو وحلفاؤه قراراً بإلغاء جميع المحافظات الإقطاعية البالغ عددها (261) محافظة. وتم حظر تكوين الجيوش بواسطة الإقطاعيين. وطلبت الحكومة من الأمراء التقاعد عن العمل والحضور إلى طوكيو. استمر الأمراء يتلقون مخصصاتهم ويعملون أيضاً في مجال التجارة. وقامت الحكومة بتقسيم اليابان إلى محافظات وفق حدود جديدة وتم تعيين محافظين لها.

في عام 1871 عُين أوكوبو وزيراً للمالية. وقام بتنظيم جميع الشئون المالية والزراعية والتجارية والاتصالات وأصبح بذلك أقوى رجل في اليابان. وقام أوكوبو ومساعدوه بتوحيد العملات البالغ عددها (1600) نوعاً في عملة واحدة هي الين. وقاموا بإنشاء بنك حكومي للتحكم في المعاملات المالية. كما قاموا بالإشراف على ربط المدن اليابانية بالاتصالات التلغرافية وإنشاء أول خط لسكة حديد يربط بين طوكيو ويوكاهاما في عام 1872 بمساعدة المهندسين البريطانيين والتمويل البريطاني. وقد أدى الخط الحديدي إلى تخفيض تكاليف النقل بين المدينتين بمعدل 98% وبحلول عام 1895 كان لليابان (2000) ميلاً من الخطوط الحديدية.

قام أوكوبو وزملاؤه من قيادات ميجي بإجراء إصلاحات اجتماعية عديدة بالمساواة بين جميع طبقات المجتمع وتوفير فرص العمل للجميع وإزالة كافة الفوارق والامتيازات الاجتماعية. وسمح للمزارعين بالسفر إلى المدن وارتداء الزي الغربي. وكان أوكوبو في مقدمة الذين نزعوا الكيمونو(الزي الياباني التقليدي) وارتدوا البدل الغربية التي أصبحت من علامات الحداثة. قامت حكومة ميجي ببناء الجيش وفرض الخدمة العسكرية الإلزامية على الشباب. وقد تولى الجنرال “ياماقاتا أريتومو” الذي درس نظم العسكرية الأوروبية الإشراف على تحديث الجيش الياباني على أسس النظم العسكرية التي كانت تعمل بها الدول الأوروبية. وكان التعليم من أهم معالم إصلاحات ميجي ، إذ أصبح التعليم الابتدائي إلزامياً في عام 1872، وبدأت الحكومات المحلية في بناء أكثر من (50000) مدرسة ابتدائية.

في عام 1871 أقدم كل من أوكوبو ، كيدو ، وإيواكورا وهم على قمة السلطة على خطوة غير مسبوقة. ترك المذكورون الحكومة لنوابهم وسافروا إلى أمريكا وأوروبا لعام ونصف العام. كان الهدف من الزيارة هو التفاوض مع القادة في دول الغرب حول مراجعة المعاهدات غير المتكافئة التي سبق إبرامها مع اليابان. اصطحب القادة معهم (59) طالباً. قام الوفد الياباني بزيارة أمريكا حيث التقى بالرئيس الأمريكي أولزيس قرانت ، ثم اتجه إلى بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا. وفي ألمانيا التقى الوفد “بسمارك أوْتو” وقد أعجب أوكوبو بالنهضة الصناعية المتسارعة في بريطانيا وألمانيا ، كما أعجب بوسائل النقل والقطارات التي تربط جميع أنحاء الدول الأوروبية. عندئذٍ أدرك أوكوبو الفارق الكبير بين التقدم الصناعي الذي طرأ في الغرب والتخلف الياباني.

بعد عودته من الرحلة الأوروبية تولى أوكوبو وزارة الداخلية ، واتجه نحو إنشاء مصانع نموذجية يقوم فيها الأجانب بتعليم اليابانيين كيفية التعامل مع الماكينات وآلات الصناعة. كما أنشأ مزارع نموذجية لتعليم المزارعين أساليب الزراعة الحديثة وطرق تطوير البذور وتمويل المشاريع الزراعية. وفي عام 1875 اقترح أوكوبو إصلاحات ديمقراطية ، منها إنشاء مجلس تشريعي ، تم تطويره لاحقاً ليصبح البرلمان الحالي.
وضع أوكوبو اليابان على طريق التحديث والغربنة Westernization بمختلف صورها. في 14 مايو 1878 ، وبينما كان أوكوبو ينزل من عربة تجرها الخيول أمام القصر الإمبراطوري ، هجم عليه ستة من فلول الساموراي واغتالوه انتقاماً لقائدهم سايقو وقد استسلم الرجال الستة وتمت محاكمتهم. وقد واصل رفيقا أوكوبو وهما إيتو وياماقاتا مسيرة تحديث اليابان وقادا رئاسة الوزارة اليابانية حتى وفاتهما في عامي 1909 و1922 على التوالي.

*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى