حول نفحات ليلة القدر ذات القدر العظيم والثواب الجزيل
ليلة القدر عند المؤمنين ليلة الحظوة والرفعة والتكريم ، إنها الليلة ذات القدر العظيم ، والثواب الجزيل ، إليها تهفو الأنفس، وتتطلع القلوب، فهي في الفضل ليست كألف ليلة ،بل هي خير من ألف شهر،
” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر/1-5] وفي موطأ الإمام مالك بسند مرسل:”
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر”
وقد حسب بعض أهل العلم ألف شهر فوجدوها تزيد على ثلاثة وثمانين سنة
. وهي الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم :
“ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان/3] فقد أطبق السلف على أن القرآن الكريم فصل من اللوح المحفوظ وأنزل إلى بيت العزة في سماء الدنيا ليلة القدر في رمضان ، ثم كان ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما بحسب الوقائع بعد ذلك ،
وهي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، قال تعالى :
” فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان/4، 5]،
قال النووي : وسميت ليلة القدر لما فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة ، كقوله تعالى : “ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان/4]
وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها. وهي الليلة التي تنزل فيها الملائكة إلى الأرض، ففي الحديث عن أبي هريرة مرفوعا : ” إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى” وفي حكم نزول الملائكة إلى الأرض تلك الليلة ،
يقول ابن رجب :” إذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك و تعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم و الصلاة في ليالي رمضان و مساجدهم بالقناديل و المصابيح فيقول الرب تعالى : أنتم طعنتم في بني آدم و قلتم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية فقلت لكم : { إني أعلم ما لا تعلمون } اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين
” وقال الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر؛ لأن الأرض تضيق بالملائكة بكثرتهم في تلك الليلة، من القدر وهو التضييق ، قال تعالى :
“وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر/16] أي ضيق عليه رزقه.
تحريها : لا شك أن ليلة القدر تقع في شهر رمضان؛ لذا فإن من شمر واجتهد فيه كله لن يحرم خيرها ، ولن يفوته أجرها، وهو السعيد حقا ، والفائز صدقا، غير أن التماسها يشتد في العشر الأواخر لما جاء في الحديث :
” التمسوها في العشر الأواخر في الوتر” وهي في وتر الأواخر إذن أرجى وأحرى،
فقد جاء في صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت: قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال : ” خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة “ . رواه البخاري . وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وعن ابن عمر قال :
إن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ” وفي صحيح مسلم عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال:
“التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي” وأما الجمهور فيذهب إلى أنها ليلة السابع والعشرين، فقد جاء ذلك في حديث مرفوع في مسند أحمد وسنن أبي داود، حتى إن أبي بن كعب حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين. وكثير من الناس يغرق نفسه في استنباطات عجيبة، وحسابات غريبة لا تلزمنا إذ لا دليل عليها ، وقد قال عنها ابن عطية: هذا من ملح التفسير لا من متين العلم، وهو كما قال ، ولا نشغل الناس بذكرها، وأقول : كونها ليلة سبع وعشرين أمر راجح، لكنه ليس يقينيا، وغالب لكنه ليس دائما ، فإن قيل : إن مما يرجح أنها ليلة السابع والعشرين أنه صلى الله عليه وسلم أريها تلك الليلة، وأرى صبيحتهاأنه يسجد في ماء وطين؟ قلت : لكن يعكر عليه أنه صلى الله عليه وسلم قد جاء عنه في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد أنه سجد صبيحة إحدى وعشرين في ماء وطين
. العمل فيها “
جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا :
“ من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” فانظر رعاك الله إلى ليلة واحدة تغفر فيها ذنوب الإنسان كلها ، كيف يكون شأنها فيها؟ فالمبادرة المبادرة ، فعسى أن نستدرك ما فات من ضياع العمر ، واعلم أن المعول في القبول على الإخلاص، لا مجرد الاجتهاد، والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان، ورب قائم حظه من قيامه السهر ،
قال الشعبي : ليلة القدر ليلها كنهارها ، وقال الشافعي في القديم : أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها ، وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره. وقال عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن وافقت ليلة القدر ، ما أدعو ؟ قال : تقولين : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني” وقال سفيان الثوري : ” الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة.
قد يقول قائل : ولماذا طلب العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد فيها في الأعمال ، يجيب العلامة ابن رجب : “لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا و لا حالا و لا مقالا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر، قال يحيى بن معاذ : ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو ! ( إن كنت لا أصلح للقرب … فشأنك عفو عن الذنب ) كان مطرف يقول في دعائه : اللهم ارض عنا فإن لم ترض عنافاعف عنا ! من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا و كان غاية أمله أن يطمع في العفو و من كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة .
علاماتها: في صحيح مسلم عن أبي بن كعب مرفوعا :
” وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها”
-2 وعن ابن عباس عند ابن خزيمة بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ليلة القدر ، ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة”.
3. وعند الطبراني بسند حسن : “ليلة القدر بلجة مضيئة ، لا حارة ولا باردة، لا يرمى فيها بنجم” وقوله لا يرى فيها بنجم ، أي لا ترسل فيها الشهب.
واعلم أن الناس قد أكثروا القول في ليلة القدر ، وفي أماراتها دون هدى أو كتاب منير ، حتى ظن كثير من العوام أنها طاقة نور تفتح في كوة من السقف أو الجدار
وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها ، وأن المياه المالحة تصبح في ليلة القدر حلوة ،
وأن الأنوار تكون في كل مكان، وأن الأشجار تسقط على الأرض ثم تعود ثانية…إلى آخر هذا الكلام الذي لم يصح منه شيء.
وعليه فإن فضل ليلة القدر يكتب لمن اجتهد فيها ، علم أنه أدركها أم لم يعلم.