قصة نجاح عملاق اليابان متسوبيشي .. أو الجواهر الثلاث

بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*

في عام 1870 دخل “إواساكي ياتارو” عالم التجارة كرجل أعمال صغير ، وذلك بعد أن قام برهن أراضيه في إحدى الجزر اليابانية الصغيرة مقابل حصوله على ثلاثة سفن وستة من البحارة وبعض الحقوق التجارية. أطلق “إواساكي” على تجارته البحرية اسم متسوبيشي أي الجواهر الثلاث.

تعتبر مجموعة شركات متسوبيشي اليوم إحدى أكبر المؤسسات التجارية في العالم ، وتضم بين أعمالها آلاف الشركات. يوجد الآن في تحالف شركات متسوبيشي Keiretsu (28) مؤسسة تجارية تتبادل أسهمها داخل التحالف ، وتمتلك أكثر من (10%) من أسهم (1000) شركة أخرى. تُعد (6) منها بين المؤسسات الـ (28) ضمن قائمة أكبر شركات العالم المائة وهي:

• متسوبيشي التجارية.
• بنك متسوبيشي طوكيو وهو الأكبر في العالم برأسمال قدره (700) بليون دولار ، أي ضعف رأسمال البنك الأمريكي شيس مانهاتن ، أو ما يعادل الدخل القومي في كندا.
• متسوبيشي للصناعات الثقيلة ، وهي أكبر شركات العالم للصناعات الثقيلة وتقوم بصناعة السفن ، الطائرات ، محطات الطاقة ، الصناعات الكيماوية ومولدات الكهرباء.
• متسوبيشي للسيارات ، وتأتي في المرتبة العاشرة كأكبر شركات العالم لصناعة السيارات ، والمرتبة السادسة في صناعة الشاحنات.
• متسوبيشي للكهربائيات، وتأتي في المرتبة العاشرة ضمن أكبر شركات العالم العاملة في مجال صناعة أجزاء الحاسب الآلي ، علاوةً على تفوقها في صناعة التلفزيونات ذات الشاشات الكبيرة والأدوات الكهربائية الأخرى.
• ميجي للتأمين.

ومن بين شركات متسوبيشي الأخرى شركات صناعة الخمور ، الزجاج ، الألمنيوم والمواد الكيميائية ومواد البناء. ورغم صعوبة حصر عدد جميع شركات وأعمال متسوبيشي المنتشرة في العالم ، إلا أنه من المؤكد أن العدد بالآلاف. فمن هو الذي أنشأ متسوبيشي متى وكيف؟!

يعتبر “إواساكي ياتارو” هو مؤسس أعمال متـسوبيشي. ولد “إواساكي”في 9/1/1835 في قرية “إنوكوشي” الواقعة في الساحل الجنوبي لجزيرة “شيكوكو”. والده وجده كانا عاطلين عن العمل وخسرا جميع ممتلكات العائلة الموروثة في شرب الخمر ، إلا أن والدته التي كانت تنتمي لأسرة متعلمة تمكنت من تعليم “إواساكي” القراءة والكتابة وقليلاً من التاريخ. عمل إواساكي وهو في التاسعة عشرة من عمره موظفا بدون راتب في إحدى الشركات في مدينة “أدو” طوكيو حالياً. عاد إواساكي إلى قريته بعد عامين للوقوف إلى جانب والده الذي كان قد دخل في مشاكل مع رئيس القرية ، الذي كان يحتال على المزارعين ويغتصب حقوقهم ويعتدي عليهم بالضرب. تقدم إواساكي رفض قرار المحكمة ووالده بشكوى للمحكمة ضد رئيس القرية ، إلا أن المحكمة برأته. أعلن إواساكي رفض القرار متهماً المحكمة بالفساد ، مما أدى إلى الحكم عليه بالسجن لمدة سبعة أشهر في عام 1865. في السجن تعلم إواساكي الرياضيات وأعجب بالآلة الحاسبة اليابانية التقليدية وبرع فيها. وبعد خروجه من السجن عمل معلماً للرياضيات لمدة عام. في عام 1867 ، حصل إواساكي على وظيفة في شركة تديرها حكومة “توسا” الذي كان خارجاً على “الشوقن” آنذاك في مدينة “ناقاساكي”. وبعد عامين من النجاح في عمله انتقل “إواساكي” إلى “أوساكا” ، ولكن أعمال شركة “توسا” كانت في طريقها إلى الزوال بسبب الحكومة الجديدة التي جاءت عام 1868 وخصخصت أعمال الإقطاعيين القدامى أمثال “توسا”. وفي عام 1870 تمكن “إواساكي” من الحصول على ثلاثة سفن وبعض البحارة والحقوق التجارية في بعض السلع التي كانت تعمل فيها شركة “توسا” وذلك مقابل أن يتحمل سداد جميع الديون المتراكمة على شركة “توسا” المنحلة. بدأ إواساكي يتوسع تدريجياً في التجارة البحرية بين طوكيو وأوساكا ، واشترى المزيد من السفن. اتجه إواساكي إلى الاستعانة بخيرة المتعلمين ومنحهم الصلاحيات وكان مطلبه الوحيد من موظفيه “عبادة العملاء” والركوع لهم بالتحية. كان ذلك صعباً على الموظفين المثقفين ، ومعظمهم من أسر كبيرة تحمل لقب “الساموراي”. إلا أن “إواساكي” كان يقول لهم: “إذا كنت خجلاً أو غاضباً من الركوع بالتحية للعملاء ، تذكر أنك لا تركع لإنسان ، بل تركع للمال ، وعندها سوف تكون قادراً على الصبر”.
في عام 1873 أطلق “إواساكي” على شركته اسم متسوبيشي ، ومن ثم جاءت إليه الشهرة في العام التالي عندما هزم الشركات الثلاثة المنافسة له ، وذلك لقيامه بنقل جنود الحكومة وإمداداتها إلى تايوان عند غزو اليابان لها في عام 1874. وفي الوقت الذي رفضت فيه الشركات الأخرى العمل خوفاً من فقدان سفنها ، قامت سفن متسوبيشي بـ (24) رحلة محملة بالجنود والأسلحة والأرز. ومقابل تلك الخدمة قامت الحكومة ببيع متسوبيشي (13) سفينة بسعر رمزي. كما منحتها حق نقل البريد لتصبح متسوبيشي سيدة السواحل اليابانية آنذاك.

توفي إواساكي في عام 1885 وهو في الخمسين من عمره. توفي وهو يقول أنه حقق ثلث أحلامه وأوصى شقيقه “إواساكي يانوسوكي” بقيادة الشركة.

تعلم “يانوسوكي” اللغة الإنجليزية في نيويورك وعاد ليعمل نائباً لشقيقه. وكان “يانوسوكي” هو مهندس توسيع نشاطات الشركة مثل شراء مناجم الفحم والتوسع في إنتاج النحاس كما دخل في أعمال البنوك وصناعة الورق. وكانت الصفقة الرابحة لمتسوبيشي في عام 1890 عندما قامت الشركة بشراء (28) هكتاراً في قلب طوكيو كان يستخدمها الجيش ميداناً للتدريب. قامت الشركة بإنشاء منشآت الشركة على تلك القطعة كما أقامت عليها مباني حديثة تعرف الآن بمركز “مارينوأوشي” التي تقدر قيمتها اليوم بمبالغ يصعب تسجيل أرقامها هنا.

في عام 1893 استقال “يانوسوكي” لصالح ابن أخيه الأكبر “هيسايا إيواساكي” الذي كان قد تخرج من جامعة فيلادلفيا. وكان من أهم إنجازاته بناء أول سفينة يابانية عابرة للمحيط (حمولتها 3000 طن) لصالح الحكومة وقد أطلق عليها اسم “هيتاشي مارو”. وبحلول عام 1906 بلغ عدد السفن المصنعة بواسطة الشركة ثمانية سفن ، ومن ثم أصبحت متسوبيشي قادرة على صناعة سفن على مستوى الصناعات الغربية ، علاوةً على صناعة الناقلات والمدمرات الخاصة بالبحرية اليابانية.

في عام 1916 تقاعد “هيسايا” ليخلفه على الرئاسة: ابن عمه “كوياتا يانوسوكي” المتخرج من جامعة كيمبردج البريطانية. ومع قيام الحرب العالمية الأولى اتجهت تجارة العالم نحو اليابان الشيء الذي مكن متسوبيشي من التوسع في صناعة السفن والمواد الكيميائية. فتح “كوياتا” شركة متسوبيشي للمساهمة العامة ، وأنشأ شركات فرعية ذات أسهم كان من شأنها أن توفر أموالاً طائلة.

قامت الشركة بتقسيم مصنع السفن في “كوبي” إلى شركتين إحداهما للكهرباء والأخرى للمحركات. وقد تمكن المهندسون الذين كانوا يعملون في صناعة السفن من إنتاج سيارة على طراز فيات في عام 1917 ، كما قاموا بإنتاج طائرة كاملة في عام 1919. وكان على الشركة أن تختار بين العمل في مجال عمل الطائرات أو العمل في صناعة السيارات ، وقد فضلت الخيار الأول لقلة الطلب على السيارات وحاجة الجيش للطائرات ، ولذا دخلت شركة متسوبيشي مجال صناعة الطائرات.

كانت الفترة من عام 1920-1930 من الفترات الحرجة على الاقتصاد الياباني بسبب الحرب العالمية وما تبعها من ركود اقتصادي في العالم ، وكذا أزمة البنوك والهزة الأرضية الكبرى التي ضربت اليابان ، وأخيراً الأزمة الاقتصادية التي هزت العالم في عام 1929. ولم تؤثر تلك الأزمات كثيراً على متسوبيشي إذ أن بنك متسوبيشي كان قد تولى مهمة تقديم الدعم لشركات متسوبيشي من أرصدته المجمدة. كما أن هنالك عدداً كبيراً من الشركات اليابانية الصغيرة قد أفلست وباعـت أصـولها بأسعار بخسة لمتسوبيشي ومتسوي وسوميتومو.

نشطت الصناعات اليابانية وامتدت مصانعها ومناجمها إلى منشوريا والصين وغيرها لأن الحكومة اليابانية بدأت بناء الجيش والاستعداد لحرب تالية. وبدأ الطلب على الطائرات والسفن والأسلحة الثـقيلة يتضاعف حتى بلغ عشرين ضعفاً. بعد احتلال اليابان للصين في عام 1937 ملَّكت الحكومة شركة متسوبيشي (23) مصنعاً صينياً. وتولى موظفو متسوبيشي إدارة المصانع الصينية والمناجم ومصانع السفن والأقمشة. وقد دفع ذلك عائلة “إواساكي” لبيع أسهم تبلغ قيمتها نصف أملاك الشركة للجمهور حتى يتم توفير المال اللازم للاستثمارات التي توسعت مع الحرب. أنتجت متسوبيشي (16000) طائرة و(114) سفينة ، وسفينة حربية حمولتها (69000) طن المعروفة باسم “موساشي” والتي كلفت الولايات المتحدة الأمريكية (17) قنبلة و(20) طوربيداً لإغراقها قبالة سواحل الفليبين في أكتوبر 1944.

بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت شركة متسوبيشي تتوقع القيام بقيادة عمليات إعادة البناء ، إلا أنها فوجئت بقرار الرئيس الأمريكي “ترومان” القاضي بتفكيك الشركات اليابانية العملاقة. رضخت شركات “متسوي” و”سوميتومو” و”ياسودا” للقرار إلا أن “كوياتا” أعلن رفضه الالتزام بقرار التفكيك. ولكن كان “كوياتا” مريضاً وقام مساعدوه بتنفيذ قرار التفكيك قبل وفاته في ديسمبر 1945.
قام الاحتلال بتوزيع حصص شركة متسوبيشي على عامة الناس ، وصادر ممتلكات عائلة “إواساكي” مقابل سندات حكومية لم تكن لها قيمة. كما قام الاحتلال بنقل “هيسايا” البالغ من العمر ثمانين عاماً إلى دار رعاية العجزة ليخصص منزله في طوكيو لضباط الاحتلال. أمر الاحتلال بتقاعد جميع قيادات شركة متسوبيشي وبذلك انتهت سلطة عائلة “إواساكي” على الشركة. تم تقسيم الشركة التجارية إلى مائة شركة صغيرة. كما تم تقسيم شركة متسوبيشي للصناعات الثقيلة إلى ثلاث شركات ، مع حظر استعمال اسم الشركة.

بعد انتهاء الاحتلال الأمريكي في عام  1952 أعادت الحكومة اليابانية الشركة إلى الوجود. وبدأت الشركات المقسمة العودة إلى حظيرة الشركة الأم ، ولكن ليس على النظام العائلي (Zaibatsu) الذي كان سائداً قبل الحرب ، بل بنظام التحالف (Keiretsu) الذي لا يسمح بالسيطرة العائلية التامة. عاد مدراء الشركة القدامى إلى مواقعهم وبدءوا ممارسة تقليد وجبة الغداء المشترك الذي كان ينظم في يوم الجمعة الثاني من كل شهر.

ورغم أن الوجبة كانت لأكبر قوة اقتصادية إلا أن الطعام كان بسيطاً يتكون من أرز بالكاري وشاي. خلال 1950 و1960 ، انفتحت شركة متسوبيشي على أسواق أوروبا وأمريكا وحصلت على تراخيص عمل من شركات تلك الدول (مثل شركة كرايزلر للباصات ودودج) كما عقدت اتفاقات تبادل ومشاركة ، وقد ساعد ذلك على استيراد التقانة المتقدمة من أمريكا وأوروبا.
رغم قوة مجموعة شركات متسوبيشي في مجال صناعة السيارات ، السفن والمواد الكيميائية إلا أنها كانت ضعيفة في مجال الصناعات المعلوماتية كالحاسوب والبرامج وأجهزة الاتصالات ، كما أن قيام الشركات مثل سوني وهوندا بفتح مكاتب تسويق خارجية قلَّص من دور شركة متسوبيشي التجارية التي كانت تقوم بتوزيع منتجات غيرها من الشركات.

تقوم شركات متسوبيشي اليوم بالتركيز على الصناعات الثقيلة وتزويد شركاتها الخارجية بأجزاء المكنات والمحركات ، إذ تقوم سنوياً بتزويد كرايزلر بـ (400) ألف محرك ثقيل كما تقدم لشريكتها هيونداي الكورية (10) آلاف محرك صغير وكذا شركة بورتون الماليزية.

اليوم وبعد مضي 130 عاماً على قيام “إواساكي ياتارو” بإنشاء شركة متسوبيشي كإحدى أكبر المؤسسات التجارية في العالم ، ورغم أن الاحتلال سلب العائلة حقوقها بعد الحرب العالمية الثانية ، تظل مجموعة متسوبيشي كأسرة يابانية تفصل في جميع مسائلها الداخلية بالود ودون اللجوء للمحامين. وتنجز أعمالها بالكلمة والثقة المتبادلة بين أعضائها كنموذج فريد للأعمال التجارية النظيفة. وتدخل ميتسوبيشي الألفية الثالثة بفلسفة جديدة في إدارة الأعمال فيما يعرف بـ متسوبيشي 2003 (MC 2003) القائمة على وحدات الأعمال (Bussiness Units) التي تعادل الهيكل التنظيمي للإدارة وذلك بإنشاء (188) وحدة عمل بدلاً عن (118) إدارة و(300) فريق. وتعتمد النظرية الجديدة على تكوين القيم. ومن المتوقع أن تقود النظرية الإدارية الجديدة لشركات ميتسوبيشي إلى الآتي:

• منح وحدات العمل سلطات أكبر.
• تعزيز قيادة جديدة قائمة على قيم ميتسوبيشي.
• تقييم أفضل للقيم.
• التحفيز.
• إطلاق الخيال.

وتشير حسابات مجلس الإدارة أن مشروع Mc 2003 سوف يُخفض الخسائر بما يعادل (10) بليون ين ويرفع الأرباح بمقدار (10) بليون ين. يقود هذا المشروع الإبداعي الجديد مجلس إدارة يرأسها:
تتجه شركات متسوبيشي بنظرياتها الجديدة نحو التركيز على الآتي:

• أعمال الطاقة.
• المعلوماتية والإلكترونيات.
• المعادن.
•  الآليات الثقيلة.
• المواد الكيماوية.
• المواد الغذائية والحياتية.
• التقنيات الحديثة.
• تقديم الخدمات المهنية.

*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية