نيويورك – (د ب أ)
بعد مرور أربعة شهور على الحرب الروسية الأوكرانية لا يبدو أن لدى أي طرف القدرة على تحقيق انتصار حاسم في وقت قريب. في الوقت نفسه فإن ترك طرفي الصراع يستنزف كل منهما الآخر على أساس أن هذا الصراع سيظل محدودا هو موقف متهور بحسب قول المحلل الاستراتيجي الأمريكي من أصل روسي ديمتري سايمز الرئيس التنفيذي لمركز ناشونال انتريست الأمريكي.
وقال سايمز في تحليل نشرته مجلة ناشونال إنترست إن النزاع الأخير بين روسيا وليتوانيا بسبب قرار الأخيرة تقليص عمليات نقل السلع الروسية إلى جيب كالينينجراد الروسي الموجود داخل الأراضي الليتوانية يعتبر أحدث مثال على مدى السهولة التي يمكن أن يتسع بها نطاق الصراع في أوكرانيا ليخرج عن السيطرة تماما.
وأضاف سايمز أن خسائر هذا الصراع المفتوح حتى الان كبيرة للغاية وتتراوح ما بين التأثير الكارثي المحلي على أوكرانيا نفسها، إلى العواقب الاقتصادية العالمية الحادة وبخاصة في قطاعي الغذاء والطاقة والتي تجاوزت أوكرانيا بل وأوروبا بشكل عام وباتت تهدد استقرار النظام الدولي نفسه.
وبالطبع يمكن لحلف شمال الأطلسي “ناتو” تعزيز موقف أوكرانيا بتزويدها بالمزيد من الأسلحة والتدريب العسكرية بما يتيح لكييف تحقيق نجاحات تكتيكية محدودة. لكن إذا زاد نطاق هذه النجاحات وتجاوزت الأراضي التي غزتها روسيا منذ 24 شباط/فبراير الماضي وبدأت تتحول إلى هزيمة مهينة لحكومة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن موسكو تمتلك الكثير من أدوات التصعيد سواء من خلال الحشد العسكري أو وضع الاقتصاد العالمي في حالة حرب. مثل هذه التطورات ستجعل الولايات المتحدة بين خيارين وهما التعرض لهزيمة عسكرية كبيرة في أوكرانيا أو مواصلة التصعيد ضد روسيا وصولا إلى حافة الحرب النووية.
ويقول سايمز إن هؤلاء الذين ينكرون قدرة روسيا على تحسين موقفها العسكري ينسون حقيقة أنها تخوض اليوم ليس فقط “عملية عسكرية خاصة” وإنما “حربا محدودة” بالفعل، وهو أمر مختلف تماما عن الحرب الكاملة التي يمكن لموسكو شنها باستخدام كل إمكانياتها العسكرية والاقتصادية والسياسية إذا احتاجت إلى ذلك حماية لنظام الحكم.
في الوقت نفسه فإن واشنطن تواصل زيادة رهانها بشكل أسبوعي. فكلما زاد تدفق الأسلحة الحديثة والهجومية من الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وكلما صورت واشنطن والاتحاد الأوروبي أوكرانيا باعتبارها مدافعا رئيسيا عن القيم والمصالح الغربية، كلما أصبحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الأصحاب الفعليين للمشروع الأوكراني، وبالتالي فإن انهيار هذا المشروع أمام قوة الجيش الروسي، سيكون ليس فقط مهينا للولايات المتحدة، وإنما مدمرا لمصداقيتها وفاعليتها العالمية.
مثل هذا السيناريو سيكون كارثيا بالنسبة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وحزبه الديمقراطي قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وهو ما سيؤدي إلى ضغوط قوية على الإدارة لاتخاذ المزيد من الخطوات لاستيعاب مطالب الرئيس زيلينسكي للحصول على الأسلحة والدعم. وليس من الصعب التنبؤ بنظرة روسيا إلى مثل هذه التحركات، وبالتالي فإن إشارة الرئيس بايدن إلى حرب عالمية ثالثة ليس مبالغة وإنما يعكس المخاطر الحقيقية.
ويرى سايمز أنه لم يكن هناك سوى تقييم محدود لكيفية وصولنا إلى هذه النقطة الخطيرة. فالغزو الروسي لأوكرانيا يوصف على نطاق واسع بأنه غير قانوني وغير مبرر. وبالطبع فهو غير شرعي من المنظور القانوني حيث أن أوكرانيا لم تحاول غزو أراضي روسيا، وموسكو لم تحصل على قرار من مجلس الأمن الدولي يتيح لها العمل العسكري. لكن في المقابل كان هجوم الناتو على يوغوسلافيا عام 1999 غير قانوني وكذلك الغزو الأمريكي للعراق 2003. أما القول إن هذه الحرب لم تكن نتيجة استفزاز، فإنه غير مقبول على حد قول سايمز الذي يرى أن روسيا منذ سنوات تحذر من مخاطر محاولات توسيع حلف الناتو وضم دول مجاورة لحدود روسيا إليها. ورغم أن البعض قد يختلف مع وجهة نظر روسيا، فإن هناك الكثيرين من خبراء السياسة الخارجية الأمريكيين وبينهم جورج كينان الذي تحفظ على خطط توسيع الناتو من قبل.
وبالطبع فإن الرئيس الروسي بوتين هو من اتخذ قرار غزو أوكرانيا، وهو الذي يتحمل مسؤولية العواقب، لكن كما قال البابا فرانسيس مؤخرا، فإن القادة في واشنطن ولندن وبروكسل الذين تعاملوا بعجرفة مع المطالب الأمنية الروسية قبل الحرب، وقبل أن تكون فكرة انضمام أوكرانيا إلى الناتو مطروحة للنقاش الجاد، هم الذين خلقوا ما يبدو أمام الروس استفزازا متعمدا لهم لكي يهاجموا أوكرانيا.
وخلال الفترة التي كانت فيها موسكو تدرس قرارها بشأن كيفية التعامل مع رفض الغرب لمطالبها، رأي بعض كبار الخبراء في موسكو إن رفض واشنطن وبروكسل للمطالب الروسية كان قاطعا وغير ضروري, خاصة وأن أوكرانيا لم تكن على الطريق للانضمام إلى الناتو في ذلك الوقت، وأن إدارة الرئيس بايدن غير مستعدة لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عنها، وبالتالي فإن الاستفزازات التي مارستها واشنطن كانت مقصودة لجر روسيا إلى تلك الحرب.
ومن الموضوعية القول إنه بعد مرور أربعة أشهر لم تسر العملية كما تأمل الحكومة الروسية سواء سياسيا أو عسكريا. كما أن الجيش الأوكراني أبدى قدرة على المقاومة تفوق توقعات إدارة بايدن التي سارعت بإخلاء سفارتها في كييف وعرضت على الرئيس زيلينسكي المساعدة في الفرار من عاصمة بلاده. كما أن إدارة بايدن سعيدة للغاية بالنسبة للوحدة غير المسبوقة التي شهدها حلف الناتو والمعسكر الغربي بشكل عام.
والمشكلة الأساسية بالنسبة لإدارة بايدن هي أن حكومة بوتين حققت أيضا نجاحات كبيرة. فهي تقف بقوة وبمفردها أمام الغرب بشكل عام بما فيه الدول الأكثر تقدما وديمقراطية في أمريكا الشمالية وأوروبا والمحيط الهادئ. فمازالت روسيا، غير مهزومة وقادرة على التحدي. وبعد التعثر في بداية العملية العسكرية، تحقق روسيا الآن مكاسب على الأرض في إقليم دونباس وجنوب أوكرانيا.
وحتى الآن، تعتبر العملية الروسية في أوكرانيا محدودة بالفعل وليس فقط بالاسم. ومنذ البداية لم تستخدم روسيا قوات كافية لتنفيذ غزو كامل لأوكرانيا، وبخاصة للقيام بهجوم طموح على العاصمة كييف تعهدت موسكو القيام به في بادىء الأمر.
ويبدو بوتين مصمما على المضي في عمليته المحدودة لأطول فترة ممكنة بما يسمح له بالمحافظة على الأوضاع طبيعية نسبيا في روسيا. في المقابل تتصاعد العقوبات الغربية على نظام بوتين وعلى العديد من رجال الأعمال الروس بمن فيهم شخصيات حققت نجاحها دون ارتباط قوي بالنظام الروسي وهو ما أتاح الفرصة للإعلام الروسي تصوير هذه العقوبات باعتبارها تستهدف روسيا ككل وليس بوتين، والذي بدأ يتحدث عن “الحرب الوطنية” التي تخوضها بلاده، بما يفتح الباب أمام مزيد من التصعيد في المستقبل.
وقال سايمز في ختام تحليله إن افتراض أن روسيا ستتصرف وفقا للتعريفات الأمريكية للحذر سيقود إلى أخطاء قاتلة.