أبو العلاء محمد .. زعيم المجددين في إنشاد الشعر العربي الأصيل

من روّاد النغم العربي توفي في أوج عمله الفني

•بقلم / عمر محمد شريقي:
سيد الفن في اختصاصه وزعيم من غنّى القصائد العربية ، ورائد من روّاد النغم العربي ، أرشدته الطبيعة إلى طريقة في الغناء لم يقلّد فيها أحداً ولم يستطع تقليده فيها أحد ، ومن الغريب أنه كان زاهداً باللغة العامية ، ميالا إلى اللغة الفصحى ويحب الشعر العربي حبّاً ملأ عليه نفسه وتفكيره حتى صرف فنه إلى ناحيته ولم يصرفها إلى ناحية أخرى إلا نادراً، وربما غنى بعض الأدوار أو الأغنيات الزجلية العادية فلم يوفق ، وكأنه قد أدرك عجزه عن طرق الباب فأخلص للشعر العربي ووقف عبقريته في التلحين والغناء على هذا الفن الجميل من التراث .
ولد أبو العلاء محمد عام 1884 للميلاد في القاهرة ولكنه لم يعش طويلاً إذ توفي عام 1926 وله من العمر اثنان وأربعون عاماً فقد اصطلحت عليه العلل وبخاصة مرض السكر وقد عجلت طبيعته الفنية بوفاته لأنه لم يستطع مقاومة الإجهاد في السهر والغناء وما يتبع ذلك من طعام وشراب فمات في أوج عمله الفني وعدّ سيد المطربين في القصائد وزعيم المجددين في إنشاد الشعر العربي الأصيل .
عاش أبو العلاء في عصر الغناء الذهبي الذي بدأ بعهد الخديوي اسماعيل وانتهى في إعقاب الحرب العالمية الأولى وبهذا يكون قد عاش فترة الغناء الرائع الذي جاء به عبده الحامولي ومحمد عثمان وغير هؤلاء ممن أبقوا آثارهم حتى يومنا هذا ، وقد أخذ أبو العلاء عن كل من هؤلاء نصيباً من الثقافة الغنائية ولكنه كان أقرب المطربين أسلوباً من عبده الحامولي رغم اختلاف الصوت والمواهب عند الرجلين .
ومن الغريب العجيب أن يوجد إلى جانب أبي العلاء محمد نابغة موسيقي آخر هو سيد درويش الذي وقف عبقريته على الأغاني الزجلية من أدوار وأغنيات خفيفة وأناشيد تمثيلية ولم يلحن من الشعر العربي الفصيح شيئاً ، ذلك أن أبا العلاء قد تأثر بفن التجويد في القرآن الكريم والأناشيد الدينية في الأذكار وغيرها فآثر اللفظ الفصيح على العاميّ ، في حين أن سيد درويش أخذ بناحية التمثيل وتصوير البيئة التي عاش فيها وهي بيئة تتكلم الزجل كونه اشتغل وجدد شخصيته الفنية التي عرف بها الوسط الغنائي نابغاً وممثلاً لأبناء الطبقات المختلفة من أبناء شعبه المصري .
ويعتبر أبو العلاء أحد الجهابذة الكبار في التلحين وعلم النغم ، وهذا العلم يقتبس اقتباساً من أفواه المغنين وعن طريق المعاشرة والمسايرة ، والدليل على ذلك أنه لم يكن يحافظ على قواعد اللغة في الكثير من قصائده التي غنّاها ، فربما لحن في الإعراب وربما خالف الوزن العروضي في رواية الأبيات كما صنع في قصيدة :

يا من إذا قلت يا مولاي لبّاني يا واحداً ما له في ملكه ثان

فقد أورد البيت في شطره الثاني مكسورا على هذا الشكل:

يا واحداً في ملكه ما له ثان

وكما فعل في قصيدته الشهيرة ( يا مليح اللمى وحلو التثنيّ ) فقد أورد البيت الآتي على هذا الشكل :

بالصفا بالوفا بليلة أنس كنت فيها من غير وعد تزرني

فقد جزم الفعل الذي وقع موقع القافية (( تزرني )) دون جازم وذلك خلافاً للقاعدة النحوية ، وكان الواجب أن يرد هذا الفعل : (( تزورني )) لو لا ضرورة الوزن التي أجبرت الشاعر على ارتكاب الخطأ ، وهناك أخطاء كثيرة من هذا القبيل مما يدل على أنه ليس من رجال العلم ولا من طالبيه .
ومن الغريب أيضا أن يكون محمد عبد الوهاب أول المعجبين بقصائد أبي العلاء الآخذين عنه طريقته تلك ولك أن تسمع ( يا جارة الوادي ) لترى أن مطلعها مأخوذ من قصيدة أبي العلاء ( افديه إن حفظ الهوى ) وأن تصـــــغي إلى ( علموه كيف يجفو فجفا ) لترى أنها شبيهة تماماً بقصـــيدة أبي العـــــــــــــــلاء ( يا عاذلي لا تلمني إنه عبث ) وإن اختلف الأسلوب ، فالألحان بالنسبة للملحنين مشتركة ومطروحة للجميع كالمعاني الشعرية عند الشعراء ، والأسلوب وحده هو الذي يفرق بين هذا وذاك.

أبو العلا محمد والسيدة أم كلثوم

كانت طريقة أبى العلاء في التلحين أن يعمد أولاً إلى تفهم معنى الأبيات التي يريد إلباسها النغم ، فيقرؤها أولاً ثم يأخذ بالدمدمة حتى يهيئ النغمة الملائمة للمعنى ومتى تم له ذلك راح يتغنّى بالمقطوعة فيسوي من مطالعها ويصلح من نهاياتها وقوافها حتى تستوي خلقا موسيقيا جديدا ، ومن عبقريته التي عرف بها أنه كان يغني ثلاثاً أو أربعاً من القصائد في نغمة واحدة ، فإذا سمعت القصائد وجدت أن كل قصيدة لها طعم موسيقي خاص يختلف عن الآخر في القصيدة الأخرى ، وخذ على ذلك مثلا قصائده : وحقك أنت المنى والطلب ، و : يا عاذلي لا تلمني إنه عبث ، فهما من نغمة السيكاه المعروفة ومع ذلك فكل واحدة تختلف عن الأخرى في الطعم والأداء .
وكانت موهبته في التلحين تواتيه في اللحظة التي يريد فقد كان يملك الارتجال وكأن اللحن في دمه أو هو يخالط حواسه كلها ، كما تحدث عازف الكمان الشهير ( سامي الشوّا ) فقال :
كنا نأتي إلى دار شركة الاسطوانات ومعنا الشيخ أبو العلاء دون أن نعلم ماذا يريد أن يقول ، فإذا اجتمعنا للتسجيل سألناه عما يريد أن ينشد فكان يقول : اللي ربنا يفتح به علينا ، اعزفوا لنا مقدمة من نغم ( البيات ) مثلا ، ثم يبدأ بالإنشاد دون أن نكون قد سمعنا اللحن قبل ذلك ،،
وليس خافياً أن مرافقة المغني في إنشاد القصائد لا تحتاج إلى الكثير من التدريب وبخاصة عند العازفين من أمثال الشوا وعبد الحميد القضابي وأمين البزري ممن كانوا يحفظون الأصول ويتقنون الأساليب التي يتغنى بها المغنون مهما اختلفت ألوانهم الموسيقية ، على عكس ألحان هذه الأيام في المنولوجات التي يقلد بها الملحنون الغربيين فــي التعقيد ومحاولة الاخـــــــــــــتراع وإدخــــال ( الهارموني ) و ( التوافق ) وغير ذلك من الطعوم الجديدة التي أضيفت إلى الموسيقى الشرقية .
ولا يخفى أن أحسن قصيدة لحنها أبو العلاء لأم كلثوم ، هذه المطربة الكبيرة التي كانت عملاً خالداً من أعمال أبي العلاء فهو أول من عرفها واكتشف موهبتها الصوتية وعبقريتها الغنائية حتى قالت فيه : إنها كانت تشرب النغم من فمه ، وإنه المؤثر الأول في تكوينها الفني ، حتى روى الراوون أنها صحبت أبا العلاء يوم وفاته إلى مثواه الأخير حافية القدمين تمشي مع الرجال وقد تملكها الحزن والهلع على أستاذها العظيم .
ولقد زار أبو العلاء دمشق في عهد الملك العربي فيصل وغنى له فلم يتمالك أن خلع عباءته وقدمها له كما نفحه بجائزة مالية تقديراً لفنه الكبير .
مات هذا العبقري ولكن أغانيه ستظل خالدة يرددها المغنون ويتحلى بها المطربون مثل : يا آسي الحيّ ، اقصر فؤادي ، وحقك انت المنى والطلب ، افديه إن حفظ الهوى ، إنها نماذج غنائية لا بدّ لكل مغنّ أن يحفظ ويحاول السير على طريقتها لما فيها من إتقان وإبداع .