تاشيما رائد صناعة الكاميرات وأجهزة التصوير في اليابان
بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*
ولد “تاشيما كاذو أو” في 20 نوفمبر 1899 في مدينة “كايتن” الواقعة على الشاطئ الجبلي الباسيفيكي ، على مسافة “65” كيلو متراً جنوب غرب أوساكا. كانت عائلة تاشيما تعمل في تجارة الخمور ، إلا أن والده سلم تجارة الخمور لأحد موظفيه ، وبدأ يعمل في إنشاء شركة جديدة للتصدير من ميناء “كوبي” كان والد تاشيما يقوم بتصدير الحرير والقطن إلى أستراليا حيث كان يقيم شقيقا تاشيما. توفيت والدة تاشيما وهو في العاشرة تاركة وصية تدعوه أن يكون متواضعاً لأن – في رأيها – أن الأفرع التي تحمل ثماراً أكثر هي الأكثر انخفاضاً. تمسك تاشيما بهذه الوصية ولم يتبدل حتى بعد أن أصبح ثرياً.
عندما بلغ تاشيما الثانية عشر من العمر التحق بإحدى المدارس التجارية العامة التي كانت شعارها” اجعل من اليابان الشركة التجارية الأولى في العالم”. وعندما بلغ السابعة عشر درس الاقتصاد في جامعة “كييو” في طوكيو. كان قصير القامة يتسم بالجدية إلا أنه كان ودوداً ومحبوباً بين زملائه. انشغل في بداية الدراسة الجامعية “بالبيسبول” إلا أنه في النهاية أعد بحثاً جيداً عن تاريخ الاقتصاد الروسي.
بعد تخرجه من الجامعة، عمل تاشيما موظفاً في إحدى وكالات الإعلانات في طوكيو، ولكن بعد ستة أشهر ضرب الزلزال الكبير طوكيو وقتل (200) ألف شخصاً وتحطم مكان عمله. انتقل تاشيما إلى “كوبى” ليعمل مع والده. في عام 1927 اقترح والد تاشيما سفر ابنه إلى الشرق الأوسط وأوروبا ، ممثلاً لتجار الحرير في لجنة حكومية شكلت من مختلف القطاعات الاقتصادية. عندما وصل الوفد إلى مصر قام تاشيما بعرض أفضل أنواع الحرير لمحمد علي باشا ، الذي بدأ يتفاوض معه حول قيمة الحرير. وشعر تاشيما بالإهانة وقال: “أنا لا أريد تجارة المنسوجات التي يتم فيها التفاوض في الأسعار بهذه السهولة من قبل الآخرين” واصل تاشيما رحلته إلى تركيا ، لبنان ، بوخارست وبلغراد. ثم وصل إلى باريس لزيارة أحد أصدقائه وكان ذلك في مايو 1928. كان صديق تاشيما موظفاً في البنك. وقام هذا الصديق بإطلاع تاشيما على مصنع يقوم بصناعة المناظير للجيش الياباني. وقال تاشيما هذه هي السلعة التي كنت أود إنتاجها. وقرر في الحال دخول هذا النوع من الصناعة.
بعد عودة تاشيما إلى اليابان قام بزيارته شخصان ألمانيان، كانا من أصدقاء والده ، وعرضا على تاشيما العمل في مجال صناعة الكاميرات ، وطلبا منه توفير المال اللازم لاستيراد الأجزاء من ألمانيا ومن ثم تجميعها في اليابان بتكلفة أقل. وافق تاشيما على العرض. وكان يتمنى أن تقوم هذه الصناعة في إطار أعمال والده. ولكن والده رفض المشاركة ، وطلب من تاشيما أن يعمل ذلك بنفسه. فلجأ تاشيما إلى “موريواكي ساسوكي” مدير أعمال مصانع الخمور التابعة لأسرته، وطلب منه قرضاً بحوالي مليون دولار لشراء أرض لمصنع، فوافق”موريواكي” بدون تردد.
قام تاشيما وصديقاه الألمانيان “ويلي هايلمان” و”فيلي نيومان” باستئجار (12) عاملاً وبدءا العمل في تجميع الكاميرات ، ولم يكن تاشيما قد بلغ التاسعة والعشرين عندئذٍ. وأطلق تاشيما على شركته اسم “الشركة اليابانية الألمانية للكاميرات”. في خلال أربعة أشهر تمكن تاشيما من إنتاج أول كاميرا. وقفز الإنتاج الشهري إلى مائة. وكانت الكاميرا منخفضة السعر. وبدأ تاشيما تسويقها بنفسه من باب إلى باب. قام تاشيما بزيارة طوكيو ومعه مائة كاميرا. ولكن لم يتمكن من البيع لأنه وجد من يساوم على الأسعار التي حددها. عاد إلى أوساكا وحصل على قرض إضافي من “موراكي” لسداد مستحقات عماله. وعندما علم التجار أن تاشيما لن يتراجع عن الأسعار التي حددها رضخوا له وأقبلوا على شراء منتجاته . بحلول عام 1931، كان تاشيما قد أصبح قادراً على سداد ديونه ، كما أصبح مؤهلاً على التعامل مع البنوك.
تزوج تاشيما من متسوكي كامياما ، التي أنجبت له بنتاً وأربعة أولاد أسهموا في أعمال والدهم فيما بعد. أصبح تاشيما يسعى لتطوير صناعة الكاميرات ويصب كل الأرباح العائدة تجاه توسيع أعماله. استحدث تاشيما مصنعاً للعدسات في عام 1937 ، وهو عام دخول اليابان في حرب الصين. لذا قام تاشيما بعدة زيارات لقيادة البحرية اليابانية ، وحصل على طلبات بتوفير قدر كبير من أدوات التصوير للجيش.
طلب الجيش الياباني من تاشيما بناء مصنع لزجاج البصريات في أوساكا. استغرق بناء هذا المصنع عامين ، ولكن بنهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 كانت مصانع مينولتا الثلاثة قد تعرضت لأضرار بليغة من جراء القصف. بعد انتهاء الحرب كان من حسن الطالع أن قام الجنرال دوقلاس ماك آرثر بتشجيع صناعة الكاميرات اليابانية حتى يحصل الجنود الأمريكيون على الكاميرات بدلاً من الصرف على النساء والخمور ، الشيء الذي مكن تاشيما من العودة للعمل ببناء مصنع جديد للكاميرات. وقد تمكن خلال أشهر من إنتاج أنواعاً مستحدثة من الكاميرات. وعندما نشبت الحرب الكورية كان الجنود الأمريكيون يمرون إلى كوريا عبر اليابان ويشترون منها الكاميرات ، مما ساعد على انتعاش تجارة الكاميرات اليابانية.
في عام 1954 قرر تاشيما دخول السوق الأمريكي بكاميرات مينولتا. وبعث موظفاً لهذا الغرض ، إلا أن مساعي الموظف لم تنجح ، لأن الأمريكي كان يعتقد أن الصناعة اليابانية دون المستوى. قام تاشيما بزيارة أمريكا بنفسه والتقى بعدد من التجار وكان بينهم “لورانس فِنك” الذي اتفق مع تاشيما على بيع منتجات مينولتا تحت الاسم المشترك “أف آر مينولتا” وطلب “فنك” من تاشيما إنتاج كاميرات بالفلاش الإلكتروني. لم تكن التجارة مع أمريكا رابحة في البدء ، ورغم انتقادات بعض المساهمين لمغامرة تاشيما في الأسواق الأمريكية ، واصل تاشيما جهوده لكسب العملاء في أمريكا من خلال الدعاية ودعوة العملاء والاحتفاء بهم في اليابان. وهكذا تدرج تاشيما في السوق الأمريكي خاصة بعد أن كتبت إحدى المحلات الشهيرة في صحيفة نيويورك تايمز معلنة أن لكاميرات مينولتا نفس جودة الكاميرات الألمانية ، وهي أقل ثمناً منها. وجاءت القفزة الكبرى عندما استخدم رجل الفضاء “جون قلن” كاميرة مينولتا لالتقاط صور للأرض من الفضاء خلال رحلاته الثلاثة عام 1962.
في عام 1966 ، أنتجت مينولتا موديلات SR-T 101 وSLR التي أصبحت أفضل المبيعات في أمريكا خلال السبعينات ، لذا كونت مينولتا قسماً تجارياً خاصاً يتكون من (60) موظفاً لبيع الكاميرات مباشرة إلى (12) ألف موزع في جميع أنحاء أمريكا. وأصبحت بذلك الشركة الأولى التي تخطو مثل تلك الخطوة. وهكذا شكلت صادرات مينولتا (80%) من إنتاجها وتفوقت الكاميرات اليابانية بذلك على الكاميرات الألمانية. وفي نفس العام أقام مينولتا مصنعاً في ماليزيا لمواجهة الطلبات الكثيرة ، وبدأ مصنع ماليزيا ينتج اليوم مليون كاميرا سنوياً أي ما يعادل (60%) من الإنتاج الكلي للشركة.
لم تقف تطلعات تاشيما عند صناعة الكاميرات ، بل أدرك أن للطلب على الكاميرات حدوده. وشرع في محاولات إنتاج أجهزة التصوير ودخل في منافسات حادة وسباق طويل مع شركات سبقته في هذا المجال، مثل كانون وزايروكس. ولكن بفضل الجهود المضنية والإصرار تمكن تاشيما من تطوير أجهزة مينولتا للتصوير وتسويقها بأسعار مخفضة وكان ذلك في عام 1980. وقتها كان تاشيما قد بلغ الثانية والثمانين من العمر وقرر التقاعد مكلفاً ابنه “هيدو” برئاسة الشركة.
تقوم مينولتا اليوم بصناعة أجهزة التصوير الملون بجانب الكاميرات والعدسات (170 نوعاً) وتأتي ضمن أكبر الشركات الرئيسة العاملة في هذا المجال مثل كانون ، زايروكس ، ريكو ونيكون وميتا. وتركز الشركة الآن أبحاثها حول تطوير الأجهزة الرقمية. لقد حقق تاشيما أكثر مما كان يحلم به إلا أنه لم يتمكن من إنهاء أسلوب المساومة في التجارة أو تحديد السعر كما يشاء.
بقى لنا أن نوضح الاسم التجاري مينولتا الذي أطلقه تاشيما على شركته عام 1933. الاسم يتكون من الأحرف الأولى لـ:
Machinary and Instruments Optical by Tashima (Minolta)
وقد بلغت منتجاتها اليوم:
(80) مليون كاميرا.
(25) مليون عدسة.
(4) مليون جهاز تصوير.
بالإضافة إلى الملايين من أجهزة التصوير بالليزر ، الفاكس ، طابعات الليزر وأجهزة التصوير المقطعي الطبية.
*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية