سوشيرو نافخ الكير ونجل الحداد الذي أسس شركة هوندا

بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*

ولد “هوندا سوشيرو” في 17 نوفمبر 1906 في مدينة صغيرة تسمى “تنريو” في ضواحي هاماماتسو الواقعة على بعد (210) كيلومتراً جنوب غرب طوكيو. كان هوندا الأكبر بين أشقائه التسعة. كان والده حداداً يقوم بإصلاح الدراجات ، وكانت والدته تعمل محاسبة لدى زوجها. في صباه عمل هوندا مع والده كنافخ كير، حتى ترك الفحم بقعة سوداء في أنفه مما جعل الناس يطلقون عليه ” ويسل” تشبيهاً بالحيوان صاحب الأنف الأسود. عندما بلغ هوندا السابعة من عمره شاهد السيارة لأول مرة . وفي ذلك يقول هوندا: ” إنها كانت سيارة فورد ، مسحت يدي بزيت السيارة ووضعت يدي على أنفي وأخذت نفساً طويلاً من رائحته. ومن ثم كان الحلم بصناعة سيارة “. التحق هوندا بالعمل في ورشة لصيانة السيارات في طوكيو، حيث كان يقوم بالمسح والنظافة ، وكان ممنوعاً عليه أن يقترب من السيارات. بعد ستة أعوام أصبح هوندا ميكانيكياً ماهراً وفتح لنفسه محلاً خاصاً لصيانة السيارات. اكتسب هوندا الشهرة بسبب مهارته. وفي خلال ثلاثة أعوام كان لديه (50) عاملاً.

كان هوندا مغرماً بحياة الليل والسهر مع الخمر وبنات القيشا، كما كان مغرماً بسباق القوارب والسيارات. واشتهر بسرعته في القيادة ، وكان يصمم سيارات السباق. ترك هوندا حياة اللهو وتزوج معلمة تدعى” آيسوبي ساشي” وأنجب منها ولدين وبنتين. في عام 1937 أنشأ هوندا مصنعاً صغيراً لصناعة حلقات ” البستون” ، وكان يتعلم ليلاً في مدرسة فنية محلية ، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على الدبلوم ، لأنه كان ينظر إلى الشهادة وكأنها تذكرة لدخول السينما. إنتاجه الأول من حلقات البستون لم تكن ناجحة. وبسرعة تعلم من أخطائه حتى أصبح في عام 1940 يبيع البستون لشركة تايوتا. إبان الحرب العالمية الثانية قام هوندا بصناعة أجزاء طائرات حربية لصالح الجيش الياباني ، كما اكتشف أسلوباً سريعاً لتحريك الطائرات خلال (30) دقيقة بدلاً من أسبوع.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية قام هوندا بمواصلة عمله في صيانة الماكينات. وقد اشترى لهذا الغرض خمسمائة سلندر ماكينات من الجيش. وفي يوم من الأيام وبعد أن سئم ركوب القطارات ، قام بربط إحدى تلك الماكينات التي اشتراها من الجيش في دراجة لاستعماله الخاص. وكانت تلك بداية سيارات هوندا. بعد نفاذ إمدادات المحركات التي توفرت بعد الحرب ، شرع هوندا في صناعة محركاته الخاصة للدراجات وكان يتطلب ذلك توفير المال. البنوك لم تكن تعترف به لأنه أمي لم يذهب إلى المدرسة أبدا ً، ولكن لحسن حظه وجد رجلاً يدعى “فوجيساوا” وافق أن يكون ممولاً لشركة هوندا وشريكاً له. تولى فوجيساوا العمل المالي والإداري ليمكن هوندا من التفرغ للعمل الفني.

في البداية كان هوندا يحمل أجزاء المحركات التي يجلبها من الخارج بين أمتعته لأنه لم يكن يملك ما يدفعه مقابل الشحن الجوي. حاول هوندا و”فوجيساوا” الحصول على قرض من بنك متسوبشي. وقام بدعوة موظفي البنك على العشاء والحفل الليلي إلا أنهم في صباح اليوم التالي رفضوا طلبه. ولكن لحسن الحظ وافق بنك آخر على تقديم القرض. تمكن هوندا من مضاعفة طاقة ماكينات الدراجات خلال أعوام قليلة وباع آلاف الوحدات منها. كان اليابانيون في تلك المرحلة عاجزين عن شراء سيارات ، ولكن بنهاية الخمسينات كان 40% منهم قد حصل على دراجات بخارية من هوندا. كانت دراجات هوندا مميزة بتكلفتها المنخفضة وكفاءتها الفنية وقوتها.

في عام 1953 بدأت هوندا في تصدير الدراجات لدول آسيا ، وثم انتقل بنوع أفضل من الدراجات إلى الأسواق الأمريكية حيث كان يبيع كل شهر ستين ألف دراجة ، لتصبح شركته رقم واحد في العالم في السنوات الخمسة التي تلت عام 1960.

في عام 1961 أقام هوندا شركة أبحاث للتطوير ، وخصص لها 2.5% من عائدات الشركة. كان هوندا محباً للعمل وكان ينتهج نهج “في الوقت تماماً” “just –in time” الذي ابتكرته شركة تويوتا لمعالجة جوانب القصور والفشل. كان هوندا قوياً ودقيقاً ويرفع صوته أحياناً على موظفيه قائلاً: “نحن لا نصنع ملابس ، أقل خطأ في عملنا يعرض حياة الناس للخطر” ، وكان يطلق على الموظفين – الشركاء – ويستقبلهم بحماس ويتعامل معهم بلطف. كان يلزم جميع الموظفين بلباس الجاكيت الأبيض وكان لا يميز. بين الموظفين الجدد ويخضعهم جميعاً للتدريب مع الخبراء دون اعتبار لدرجاتهم العلمية. جميع القيادات العليا كانوا يعملون عملاً جماعياً وكان لقلة منهم مكاتب فردية. وحتى عام 1991 كان رئيس الشركة ومساعدوه يعملون معاً في قاعة واحدة. الجميع بما فيهم الرئيس وكبار القادة يتناولون الغذاء مع العمال في المطعم المشترك. ومقابل فقدان قيادات هوندا للامتيازات الخاصة كانوا يتمتعون بسلطات إدارية واسعة.

في عام 1963 قرر هوندا دخول مجال صناعة السيارات. وكان يقول: “لا أريد أن أكون الأول في صناعة الدراجات البخارية فقط. يجب التقدم من مرحلة لأخرى”. وفي المقابل كان هناك اتجاهاً في وزارة الصناعة والتجارة الخارجية (MITI) بعدم السماح للشركات الصغيرة بدخول عالم صناعة السيارات خوفاً من المنافسة المحتملة مع الشركات الأمريكية الكبرى. تقدمت وزارة الصناعة والتجارة الخارجية للبرلمان بمشروع قانون يحدد عدد الشركات المصنعة للسيارات ، ولكن هوندا لم يسكت في ذلك، بل دخل في مقاومة مع البرلمان الياباني للحيلولة دون إجازة القانون المقترح.

سيارات هوندا الأولى كانت صورة مكبرة للدراجات البخارية ولكن سرعان ما جرى تطويرها حتى وصلت الدرجة المقبولة في عام 1969. ولكن نشب نزاع بين هوندا وبعض صغار مهندسيه حول نوع السيارة التي يصدرونها إلى أمريكا ، ما إذا كانت ذات تبريد هوائي أو مائي. كان هوندا معجباً بالتبريد الهوائي المعمول به في فولكسواجن. وقد أدى ذلك إلى دخول رئيس الفريق المعارض “كومي تاداشي” في إضراب احتجاجاً على موقف هوندا. وكان هوندا معجباً بصغار المهندسين الواثقين من أنفسهم ، لذا تراجع عن قراره واعتمد المحرك الذي صممه “كومي” بالتبريد المائي. مع دخول سيارات هوندا الأسواق الأمريكية تقاعد هوندا وعين كواشيما كيوشي (45) سنة رئيساً للشركة.

أنتجت هوندا سيارة “هوندا” سيفيك” في 1973 وهوندا ” أكورد” في عام 1976 ثم “بريلود” في عام 1978 و”أكورا” في عام 1980. اليوم تبيع شركة هوندا (700) ألف وحدة من سياراتها في الولايات المتحدة الأمريكية لتأتي في المرتبة الرابعة بين أكبر الشركات. ولشركة هوندا مصانع في (40) دولة وتتميز صناعات هوندا خارج اليابان بجودتها المماثلة لتلك المصنعة داخل اليابان.

بعد التقاعد ظل هوندا مهتماً بتعزيز صناعة السيارات ، إذ أنشأ مؤسسة تتعهد بدراسة وتطوير السلامة المرورية والبيئة. كما كان لهوندا اهتمام بالرسم والعناية بالحدائق حتى توفى في عام 1991، تاركاً مقولته المشهورة حول صناعة السيارات: “إنها تحتاج إلى: (1) أن يكون العمال سعداء بما يصنعون ، (2) أن يكون الموزعون سعداء بما يقومون بتوزيعه ، (3) أن يكون العملاء سعداء بما يشترون من سيارات”.

*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية