الشعب الياباني يحب الأمن والسلام ويكره الحروب
التغيير المستمر عند اليابانيين أسلوب حياة وثقافة أمة
بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*
منذ عام 1988، تاريخ إكمال مرحلة الدراسات العليا في جامعة ” كيو” اليابانية، تابع الباحث باهتمام خاص ما يجري في اليابان، إذ أن تلك الإمبراطورية الصغيرة في مساحتها، الفقيرة في مواردها الطبيعية، والكبيرة بإنسانها، العظيمة بمثلها وقيمها الراسخة التي جعلت منها أحدى أكبر الدول الصناعية في العالم، جديرة بالدراسة والمتابعة والاستفادة من نجاحاتها في الوطنية والتنمية والرفاهية.
ورغم تركيزنا على الجوانب المتصلة بمجال تخصصي في القانون ونظم العدالة الجنائية، إلا أن العلاقات الأكاديمية ومواصلة البحوث العلمية مع اليابانيين تعمق معرفة الباحث باليابان وتوثق علاقته بمختلف المهن والتخصصات. كما تتميز الدراسة في اليابان عن الدراسة في غيرها من دول العالم بولاء الطالب لجامعته وأستاذه والزمالة الدراسية المستدامة، التي تتجدد سنوياً في احتفالات نهاية العام المعروفة بـ ” بوننكاي” التي تجمع الخريجين في مكان واحد وبحضور الأساتذة القدماء والجدد.
عشت في اليابان ستة أعوام، أواخر الثمانينات من القرن العشرين، ثم زرت اليابان عدة مرات خلال العقدين الماضيين، إلا أنني قمت مؤخراً بثلاثة زيارات هامة، الأولى في فبراير ، مارس وأبريل 2016 والثانية في سبتمبر من نفس العام، والثالثة في فبرايز 2018 كنت خلال هذه الزيارات الثلاثة أكثر حركة بزياراتي لكثير من المدن والأرياف خارج العاصمة طوكيو. كنت أكثر تواصلاً مع قطاعات اجتماعية مختلفة بحكم دراسات ميدانية شاركت فيها مع مجموعة من الأساتذة اليابانيين، منهم كبار السن ومنهم الشباب. أفهم في اللغة اليابانية، ولا أقول أجيدها، وكيف أدعي ذلك إذا كان أساتذة اللغة اليابانية أنفسهم يقولون أنهم لا يجيدونها؟ أهوى كثيراً الحديث مع العجزة وكبار السن من اليابانيين، خاصة النساء لأنهن أقوى ذاكرة وأوفر بياناً، كما أعشق الاستماع إليهم لأنهم يمثلون الماضي والحاضر ويخاطبون الآخر من القلب إلى القلب ويدركون تماماً معاني البؤس، الشقاء، الحرمان والحرب كما يدركون حقيقة الأمن والسلام وقيم الرفاهية ولا يتمنون للبشرية سوى الأمن والسلام. يكرهون الحرب وأخبارها كما يكرهون كل من يرفع السلاح أو يهدد بالحرب. يعتقدون بشدة أن الإنسان المعاصر لم يستوعب دروس التاريخ، خاصة الساسة والقادة ، شاهدت أحد كبار السن يمضي يومه بجانب متحف السلام المقام في هيروشيما، حيث ألقيت أول قنبلة ذرية عام 1945، وهو يردد: لماذا الحرب هنا وهناك. لماذا يقتل الناس بعضهم؟ أما يكفينا من يقتلهم الجوع والمرض والكوارث الطبيعية؟
كان من حسن الطالع أن تزامنت زيارتي الأولى لليابان في هذا العام مع تراجع الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي حكم اليابان لأكثر من نصف قرن، ولمعان نجم الحزب الديمقراطي الياباني برئاسة يوكيو هاتوياما الذي انشق عن الحزب الديمقراطي الليبرالي في التسعينات من القرن الماضي، وشارك في تطوير الحزب الديمقراطي الياباني وقيادته للانتصار الكبير في انتخابات أغسطس 2009، تحت نفس قوالب شعار التغيير التي اكتسح بها باراك أوباما انتخابات الرئاسة الأمريكية، مما يعكس شغف الياباني وولاءه لكل ما هو أمريكي ولكن، ربما فات على اليابانيين حقائق حول التغيير الذي وعد به رئيسهم المنتخب.
فهم الناخب الياباني أن التغيير الذي نادى به الحزب الديمقراطي الياباني هو الخروج من الجلباب الأمريكي وتفصيل “كيمونو” ياباني يُلبسه للجوار الآسيوي، ويكتمل حلمهم في التصالح مع دول الجوار والاستفادة من أسواقها الواعدة، خاصة في الصين وكوريا ودول رابطة الآسيان.
ولكن سرعان ما تبدد الحلم واطمأن المحافظون في الحزب الليبرالي الديمقراطي عندما هرع الرئيس الياباني المنتخب إلى الولايات المتحدة الأمريكية وطمأن الرئيس أوباما باستمرار العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة مؤكداً بذكاء أن شعار التغيير الذي ينادي به هو تغيير سياسي داخلي.
لقد فات ِأيضاً على اليابانيين التغيير الحقيقي الذي يطرأ على حياتهم كل يوم. وكما يقول حكيمهم ” بوذا” الذي يؤمن به كثير من اليابانيين أن من يولد في الجنة لا يعرف النار. إن التغيير الذي طرأ على حياة الياباني خلال العقدين الماضيين لا يمكن إيجازه في صفحات محدودة ولا يمكن وصفه بكلمات وصور.
قبل عشرين سنة كنت أقول، لقد أكمل اليابانيون كل شيء وأقاموا مجتمع الأمن والرفاهية فماذا هم فاعلون غداً؟ كنت آنذاك بالطبع كإفريقي بسيط أرى أن صناعة السيارات أو زراعتها، كما يقول اليابانيون، وتطوير الإلكترونيات واستخدامات الروبوتات ووفرة التعليم والسكن والعلاج هي نهاية التقدم وقمة الرفاهية. وتوالت الأيام والسنون وأنا والعالم أجمع نشهد ما يصنعه اليابانيون كل يوم. التغيير لديهم ليس شعاراً سياسياً يُرفع اليوم، بل التغيير عندهم أسلوب حياة وثقافة أمة. يتواصل التغيير في اليابان وبتدرج منظم ومحسوب، فيما يُعرف بنظرية الكايزن Japanese Strategy for Continous Development.
المقيم في اليابان لا يلحظ التغيير ولا يشعر بحركة البناء وإنشاءات الطرق والجسور والأنفاق. أما الزائر الذي يتردد على اليابان فتفاجئه المتغيرات وتبهره جودة الخدمات وتذهله الوفرة في كل شيء وفي كل مكان وزمان، يلحظ الزائر الرفاهية في وجوه الناس، في حديثهم في تعاملهم وفي ابتسامات الصغار.
النمو الاقتصادي والاجتماعي في اليابان تجاوز كل المعدلات والتقديرات، ليس مقارنة مع طموحات اليابانيين، ولكن مقارنة مع عالمنا العربي والأفريقي والجوار الآسيوي والأوروبي أيضاً.
اليابانيون يرون عكس ذلك، هم غير راضين على ذلك، مع أنهم كثيرو الحمد والشكر عند تناول الطعام والشراب. أستاذي في القانون أيام الدراسة “كواشي ميازاوا” كان يقول لنا دائماً في الثمانينات من القرن الماضي أن الاقتصاد الياباني يتراجع بشدة ويتجه للانهيار التام . اليوم وجدت أستاذ ابني في جامعة شيبا يردد على طلابه نفس العبارات، وهو أستاذ في تقنيات النانو ويتحدث عن اختراعات وإضافات علمية نحن لا نفهم عنها سوى مردودها الإيجابي على حياة الإنسان. بمثل هذه الدروس وغيرها يزرع الأساتذة اليابانيون وكبار السن في أبنائهم ثقافة الطموح والإحساس بأنهم مازالوا في البداية.
كيف يقاس النمو الاقتصادي وكيف يقاس النمو الاجتماعي؟ هنالك حسابات علمية دقيقة تعتمدها المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية وهنالك معايير معتمدة يفهمها الخبراء والمختصون مثل خبراء معهد أبحاث ” قنيا” الياباني الذين يسخرون حسابات “سيغما”segma و “لين” lean و” كايكاكو. ولكن تعتمد النتائج التي تفصح عنها تلك المؤسسات الدولية على البيانات الوطنية المعلنة، واستطلاعات الرأي وأسعار السلع والخدمات وقيمة العملات الوطنية… الخ .
ولكن الحقائق الاقتصادية لها أسرار وخبايا، ولها مقومات تحت الأرض وأعالي البحار. فإذا كنا بصدد قراءة الأوضاع الاقتصادية في اليابان فإننا نشهد جودة الصناعات اليابانية التي ما زالت في القمة، تجاوزت الشركات اليابانية العملاقة حدودها الجغرافية لتأخذ مواقع متقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، أستراليا وأوروبا ناهيك عن دول آسيا. الصناعات اليابانية الرئيسية مثل صناعة السيارات، السفن، الإلكترونيات أصبحت طوع البنان، أي يمكنهم إنتاج أي حجم وبأي كم في أي وقت ،حسب النظرية الشهيرة التي تعهدت بها شركة تويوتا للسيارات والتي تقول Just In Time أي في الوقت بالضبط. لدى الشركات اليابانية القدرة على التحكم في الأسواق والأسعار، وتلك هي قوة الاقتصاد في تقتديرنا نعم هنالك مئات الشركات التي تعلن إفلاسها كل عام، كما أن هنالك آلاف الشركات التي تدخل السوق كل عام. ورغم إعلان شركة تويوتا، على سبيل المثال، عن أول خسارة لها منذ (70) سنة، يقول نائب المدير التنفيذي للشركة “يوكيتوشي فونو” أن تويوتا على بعد خطوة واحدة لتكون رقم (1) في الأسواق الصينية بحلول عام 2010. وكلنا يعلم ماذا يعني أن تكون رقم (1) في الأسواق الصينية.
اتجهت المدن اليابانية الرئيسية إلى عمران رأسي لا يخشى الزلازل والبراكين. جبل فوجي أو ” السيد فوجي” كما يسميه اليابانيون الذي يشكل أكبر مهددات السلامة بما يختزنها من البراكين الحية القابلة للانفجار، أصبح الآن قبلة السياح وملاذ طلاب الراحة والاستجمام، بفضل منشآته السياحية وموارده الطبيعية.
محطات القطارات حول وداخل مدينة طوكيو أصبحت بنايات ومجمعات تجارية متعددة الطوابق فوق الأرض وباطنها، وما زالت القطارات تعبر تلك الطوابق أو تقف عندها.
التنمية الاقتصادية امتدت على طول البلاد وعرضها وعمت المدن القديمة والأرياف. المناطق الزراعية، الغابات، قمم الجبال وشواطئ البحار والأنهار نالت حظها الوافر من النمو وأسباب المدنية وحياة الحضر.
تراجع الفقر وارتفعت معدلات الادخار لدى الأفراد مما وفر التمويل للمشاريع الداخلية والدعم الحكومي للشركات الكبرى المتعثرة.
كانت العملة اليابانية ضعيفة جداً مقابل الدولار الأمريكي في الثمانينات، حيث كانت قيمة الدولار (250) ين، مما حقق فائضا كبيرا في التجارة الخارجية مع الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا، لذا اجمعت الدول السبعة الكبرى بموجب اتفاقية بلاذا لعام 1985 على تقوية الين الياباني، بقصد خفض صادرات اليابان ومضاعفة وارداتها.منذ ذلك التاريخ ظلت قيمة الين في ارتفاع متواصل ، حتى أصبحت قيمة الدولار اليوم (90) ين.
نحن في الدول النامية يزعجنا انخفاض عملاتنا الوطنية مقابل الدولار. أما الياباني فيزعجه كثيراً قوة الين أمام الدولار الأمريكي وغيره من العملات، لأن ذلك ينعكس سلباً على المصدرين اليابانيين، إلا أن البعض يرى عكس ذلك ومنهم وزير المالية الحالي “هيروهيسا فوجي” الذي يقول، أن الين القوي يؤثر على الصادرات ولكن يساعد على شراء الأصول في الدول الأجنبية، خاصة العقارات والأراضي التي يحتاجها اليابانيون.
مؤسسات التعليم حظيت بنصيب كبير من حركة التغيير والتنمية فأصبحت قبلة الدعم الحكومي ومنح القطاع الخاص الذي يسهم كثيراً في دعم مؤسسات التعليم بمختلف مراحلها ومراكز البحوث باعتبارها مصدر مواردها البشرية وعقولها المبدعة. فالشركات اليابانية، علاوة على إنفاقها على مراكز البحوث الخاصة بها (25% من أرباحها ترصد للبحث العلمي)، تقدم دعماً غير محدوداً لمؤسسات التعليم والبحث العلمي.
ولا شك أن مؤسسات التعليم تقدر وتستحق دعم القطاع الخاص. فالجامعات ومراكز البحوث هي التي تقدم الاختراعات العلمية والإضافات التكنولوجية وتضع بين يدي الشركات المصنعة نماذج جاهزة من الإبداعات.
لذا نجد الجامعات العتيقة مثل جامعة طوكيو، وأسيدا و كييو حدَّثت مقارها لتصبح مدناً متكاملة بمكتباتها الإلكترونية، قاعاتها المجهزة، مختبراتها، مصانعها التعليمية، مستشفياتها، ملاعبها الرياضية ومسارحها. انتقلت الكليات التي كانت تنضوي تحت كل جامعة إلى جامعات مستقلة بنفسها، مثل جامعة الهندسة، جامعة الطب وجامعة الزراعة.
التغيير الذي ينشده اليابانيون دائماً هو تغيير سلوك السياسيين. ينتظر اليابانيون أن يكون رؤساءهم و وزراءهم أكثر أمانة وأكثر تمسكاً بالعادات وقيم السامراي ونزاهة السامراي وشجاعته. أكثر ما يثير غضب اليابانيين أن يتورط السياسيون في قضايا الفساد المالي التي تكتشف من وقت لآخر في شكل ” رشاوى” تبرعات تقدمها الشركات المشبوهة للأحزاب السياسية أو تمويلها للحملات الانتخابية. سياسة المال عرفت في السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي وكان أشهر الرؤساء اليابانيين ” كاوكي تاناكا” من رواد سياسة المال. تدرج “تناكا” سلم السياسة باستخدام المال حتى أصبح رئيساً للوزراء ولكن من حسن حظه أنه أسهم في وضع الاقتصاد الياباني والسياسة الخارجية اليابانية في الطريق الصحيح وشهد عهده بداية النهضة الصناعية لليابان، مما غفر له بعض التجاوزات المالية. ورغم استقالته بسبب اتهامه في إحدى أكبر قضايا الفساد ” قضية لوكهيد الشهيرة” ظل ” كاوكي تناكا” يدير الحزب الليبرالي الديمقراطي ويصنع الرؤساء بنفوذه القوية داخل الحزب والمؤسسات المالية والاقتصادية حتى وفاته.
ومنذ وفاة ” كاوكي تاناكا” رائد سياسة المال، أصبح الساسة اليابانيون أكثر شفافية وربما أكثر زهداً في الحكم، كما أصبح الإعلام الياباني سلطة حقيقية بجانب النظام البيروقراطي الياباني الراسخ الذي ظل قوياً ومحايداً لا يتردد في التعامل مع الوزراء والسياسيين وفقاً للقانون.
منذ التسعينات من القرن الماضي أخذت الديمقراطية اليابانية شكلاً جديداً، يختلف كثيراً عن الديمقراطية الغربية. الديمقراطية اليابانية تجمع بين محاسن الديمقراطية الليبرالية والشورى والتفاهم الأسري. استطلاعات الرأي الدورية تلعب دوراً كبيراً في بقاء أو ذهاب الرؤساء والوزراء. الإعلام الحر يلعب دوراً في التأثير وتمليك الحقائق والنزاهة وشجاعة السامراي تجعل السياسة أكثر تفاعلاً مع الرأي العام، ونتج عن ذلك استقالة أكثر من عشرة رؤساء خلال العقدين الماضيين بسبب شبهة الفساد المالي أو بسبب تدني شعبيتهم.
وكان آخر تراجيديا الاستقالات، هي استقالة ” اوزاوا ” رئيس الحزب الديمقراطي الياباني والذي قاد الحزب للفوز التاريخي في أغسطس 2009. استقالة ” أوزاوا ” عن رئاسة الحزب الديمقراطي الياباني وهو يذرف الدموع قبل شهرين من الانتخابات كان بسبب تهمة الفساد المالي لسكرتيره الخاص الذي تلقى دعماً مالياً من إحدى شركات البناء. وتقدم الرجل باستقالته وهو على بعد خطوات من تولي منصب رئاسة الوزارة حتى لا يُضار حزبه في الانتخابات التي جاءت برئيس الوزراء الحالي.
ونحن نتناول التنمية المستدامة والرفاهية في المجتمع الياباني نشير لاحقا إلى بعض أساليبها ومؤشرات من خلال تكوين الأسرة والاقتصاد والرفاهية.
*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية