لصديقة مقربة دعوة ترددها دائما وهي “اللهم ارحم أمي فهي أغلى ما فقدت”، وكانت تستوقفني عبارتها حيث أستشعر أن فقد الأم ليس مثله فقد، وحين توفيت أمي رحمها الله تيقنت أنّه شعور فوق وصف الكلمات. حب الأم ظاهرة إنسانية كونية فريدة، وفي مجتمعنا حين يستحضر المرء فضائل أمه فهو لا يملك إلا أن يقول “من مثل أمي”. وهذه مقولة فيها من الشمولية ما فيها، فهي تعبير بر ووفاء يُريح كل ابن وابنة وينصف أمهات العالم جميعا. ولا أجد منطقاً لهذه الشمولية سوى عظيم مكانة الأم في كل الثقافات لا سيّما في ديننا الحنيف، بل إنّي أرى في وصايا الله ونبيه بالوالدين -أحياء وأمواتاً- مواساة رحيمة، لولاها ما كنا لنطيق فراق أحدهما لعظم المُصاب، إنه لطف الله الخفي والرحمة التي ما بعدها رحمة.
وقد بدأت قبل شهور قليلة بحثاً جديداً أرصد فيه مرويات ذاتية عن الأمهات اللواتي ينتمين للجيل الذي سبق عهد النفط في مجتمعاتنا الخليجية. والمرويات الذاتية هي سرديات يتقصى من خلالها الباحث مسارات بحثه وأهدافه تحليلاً واستنتاجاً. وغني عن القول أنّه أصبح لدي الآن بعد آخر في تأمل وتحليل هذه المرويات والتي استقيتها من تجارب ولقاءات شخصية مع بعض هؤلاء الأمهات وفي مراحل زمنية متفاوتة، ولقاءات أخرى مع بناتهن وحفيداتهن، ومن مؤلفات بعضهن في مناقب أمهاتهن، رحم الله من فارقنا منهن وحفظ من بقي. والسمة العامة التي تعكسها تلك المرويات الوعي الأصيل والفطرة النقية التي صقلت ممارسة هذا الجيل لأدوارهن كأمهات وجدات رغم أميتهن في الأغلب. ممّا يشير إلى أهمية الدراسات العلمية لتتبع وحفظ إرثهن من القيم والسلوكيات التربوية لا سيّما وأن سنة الحياة تفرض اندثار جيلهن عن عالمنا الذي أصبح يتسم بالتعددية في الأفكار ومناهل العلم وبات يفتقد تدريجياً قيمة وجودهن كجيوب نضج ومرجعية أصيلة.
والأمثلة التي تجود بها تلك المرويات كثيرة لا سيّما للسمات القيادية لأمهاتنا من حيث استخدام اللغة مثلا في توجيه الأبناء عبر قيم الدين والإنسانية، وأكثره كان من خلال الشعر الذي حفظنه مشافهة. ومن القصص التي لفتت انتباهي عن أمهات هذا الجيل تفريقهن بين الضعيف والمستضعف وبالتالي اختلاف دعمهن لكل منهم بما يناسبه. فالعطاء للمستضعف تميّز بالتمكين والنصرة وإن كان العطاء بسيطاً وفق إمكانيات زمانهن وفي كلا الحالتين كان العون خفياً لم يعلمه الأبناء إلا بعد وفاة الأمهات في الغالب وبشهادة من تم الإحسان إليهم. ولفتة مهمة هي ما تذكره لي إحدى الأخوات التي تملك نادياً رياضياً للفتيات من ملاحظتها أن رواد مركزها من الفتيات اللاتي تقيم معهن الجدة أو لهن علاقات قوية مع الجدة يتميزن بصورة ملفتة بحُسن الحديث وطلاقة اللسان وعموم السلوكيات التي تعكس شخصية متوازنة. اللهم أحسن لأمهاتنا فقد أحسنوا إلينا وزيادة في زمن كانت موارده شحيحة ومعيشته قاسية ولم يكن لهن زاد سوى الصبر واليقين بجميل مجازاتك.