سلم الأنفس

بقلم / د. ولاء قاسم

أود اليوم أن أتناول معكم أحد المفاهيم المضيئة في العلاقات البشرية وهو ما يسمى ب “سلم الأنفس”،
سلم الأنفس مفهوم عميق ابتكره فيلسوف عظيم يدعى “كولن ويلسون” امتاز بفهمه العميق للذهن البشري.

يوضح سلم الأنفس أن كل شخص منا يمتلك شخصيات متعددة يمكن أن يفكر ويشعر ويتصرف ويتعامل مع الآخرين من خلالها.

عند أدنى درجات السلم تقبع النفس المادية والتي تتطلب أقل قدر من الوعي واليقظة الفكرية،
وفي منتصف السلم تتواجد النفس العاطفية والتي تتطلب وعياً أعلى بقليل، فيمكن من خلالها أن تتفاعل مع الآخر بخوف أو بغضب أو أستياء أو شعور بالذنب، وإذا ارتقيت في السلم قليلاً ستصل إلى مشاعر أكثر إيجابية كالمحبة والسلام، أما في الدرجات العليا من السلم تتعامل مع الآخر من خلال اليقظة والحضور ومرعاه المشاعر وفي قمة السلم تتربع الروح الصرفة وهي أعلى درجات التنوير.

ربما لاحظت أن جميع المشاعر المحببة المتعلقة بالشغف والحب والاستمتاع والتحكم بالمصير مرتبطة بالسمو والارتفاع والتحليق وكل مشاعر العجز والفشل وفقدان السيطرة مرتبطة بالغرق والانزلاق وبالهبوط إلى القاع، وكذلك العلاقات الصحية تأتي من أعلى السلم عندما يكون كل شخص في العلاقة متسامياً بذهنه ووعيه .

من المهم إدراك أن السلم داخلي بالكامل ويمكنك ارتقاؤه متى تشاء وعند اي موقف في الحياة وكل ما يحدث في الخارج ويسبب إثارة في نفسك دوره فقط تذكيرك بوجود السلم، ففي بدايات الحب مثلا نكون أذكياء ومبدعين وننصت بفضول ونتصرف بتعاطف نكون مفتونين بالآخر وكأن كل نسمة حولنا تهمس باسمه، فنحن هنا ننظر للحياة من أعلى السلم.

وبسبب الإثارة التي يسببها الوجود في أعلى السلم يسعى الناس لتكرار تجربة الحب كثيرا ولكن المأساة هي خلط الناس بين الحافز الخارجي وقدرتهم المتفردة على ارتقاء درجات السلم، يربط الناس الوجود في أعلى السلم بالحب الجديد مع أن ذلك فهم خاطئ، انطفاء الشغف وتداعي الإثارة التي تحدث بداية العلاقة والذي هو سبب تعدد العلاقات ليس بسبب الآخر وإنما سببه هبوطك من درجات سلمك النفسي ، فمن المهم أن تفهم أنك أنت من ترتقي أو تنزل على السلم بغض النظر عن الشخص الموجود في حياتك.

عندما تتمرن على الارتقاء في السلم وتتقن ذلك سوف تشعر بقدرتك على الوفاء بالتزامات العلاقة والمحافظة عليها وستشعر أنه من غير الضروري الشعور بالخوف أو الارتباك عندما يتسلل إليك الشعور بالملل لأنك تستطيع باستجابتك من الأعلى إعادة التشويق إلى علاقتك في كل مرة.

أكبر خطأ نرتكبه نحن البشر يتمثل في الخلط بين الداخل والخارج فنحن نقضي معظم أوقاتنا واضعين مشاعرنا السلبية في القمة بينما تفكيرنا الإبداعي مغمور ومخنوق قي الأسفل وكل ذلك لأننا نعتقد أن الحياة هي من تحكمنا والأحداث هي من تقرر عنا.

ما يبقينا عند أدنى درجات السلم هو الفكرة المحبطة التي نعتقدها عن أنفسنا بأننا ما نحن عليه فقط ولا يمكننا التفكير أو التصرف بطريقة أرقى، فغالبية البشر يتشبث بشخصيته التي عرفها واعتاد عليها ويرفض أي فكرة مزعزعة لها وكأنها مراسي لهويته، فنحن نعلق بقصتنا ونختلق ونضيف قصصا تؤكد عليها.

من المنطقي أن تسألني الآن كيف أتعلم أن ارتقى في سلمي الخاص؟! السلام الداخلي والاسترخاء التام هو طريقك لتطفو إلى الأعلى، عندما تفقد اتصالك بسلامك الداخلي سوف تبدأ طاقتك بالتسرب وسوف تنزلق إلى الأسفل، لكن لا تشعر بالاستياء من ذلك فأنت على الأقل تستطيع ملاحظة ذلك، ومراقبة هبوطك وصعودك هي جزء كبير من رحلتك في الارتقاء والاستمتاع بالسمو فوق أحداث الحياة ومنغصاتها، جمعينا نهبط أحيانا إلى القاع ولكن النجاح بأن تعاود الصعود فلن لا يبقى في القاع إلا من يجهل من الأساس وجود السلم الداخلي، العصبي والنفسي.

عندما تكون منزعجا تكون في أدنى سلمك العاطفي وعندما تسمو على الحدث سترى صورة أشمل وأكبر وستبدو متاعبك أصغر وأصغر، عندها سيبدو العالم زاخرا بالحلول وسترى الروابط الخفية بين الأمور،
كل ما عليك عندما تشعر بأنك محبط وتهبط إلى القاع أن تبدأ بأخذ أنفاس عميقة وتخرجها ببطء وتتخيل معها أنك تنفث كل ما يزعجك، ثم ابدأ بالارتقاء شيئا فشيئا ومن الأفضل أن تستعين بالتخيل، التأمل، الصلاة.

الضحك، الغناء والرقص كلها قد تدفعك عاليا لكن بطريقة مندفعة وخاطفة لذلك من المهم أن تبقى هناك فلا تضحك وتهبط، كل تلك النشاطات تستهلك مزيدا من الأوكسجين وتدفعك للتنفس بسرعة وهو ما تحتاجه للارتقاء، فكلما تتنفس ستسحب روحك إلى الداخل فتشعر أنك كطفل في قمة سعادته فقط لأنك على قيد الحياة.

من الضروري أن تعرف من أين تستجيب، من أي مستوى على السلم تصدر استجاباتك، أن الشعور بأن سعادتنا وتعاستنا بأيدي الآخرين استجابة من ادنى السلم ، وهي نتيجة مجموعة سلبية من المشاعر تجعلك تتواصل مع الآخرين بطريقة مقيدة ومتحفظة، كمن يعتقد بتسطيح الأرض فيتشبث بالبقاء على أريكته خشية السقوط من حافة العالم،
لذلك سأدعوك للقيام باستقامة يحدوها الأمل والتمسك بالقرار لتصنع قصتك التي تريد ليصبح عالمك أقل تسطيحا وأكثر استدارة.