في مستهل طرحنا لليوم أود التأكيد على أن صحة الأسرة وبناء اقتدارها ليس مسألة حظوظ توهب، ولا قسمة ونصيب كما يشاع بين الناس وإنما هي إرادة جادة من أفراد الأسرة للارتقاء بنوعية الحياة وجودتها ومشروع حياة يتطلب جهداً مثابراً ومتكيفا مع كل ظروف الأسرة وفرصها وأطوار حياتها.
عندما نتحدث عن التماسك الأسري نقصد به متانة الصلات العاطفية التي تجمع شمل الأسرة، والذي يضمن التواصل الإيجابي والفاعل بين أفرادها، تواصلاً يعينهم على بناء نظرة واضحة للذات وللعالم، ويعزز الوضوح في هوية الأسرة
المتفتحة على الدنيا.
القطبية التي تنتهجها عقولنا تقودنا دوما إلى نتائج غير مرغوبة فالإفراط والتطرف حتى في السمات المرغوبة يحولها إلى سمة مؤذية تضر صاحبها، لذلك الطبيعي والمطلوب دوما أن يكون هناك طيف واسع من التدرج بين النقيضين، لنتحرك فيه بدلاً من التدلي من أحد طرفي النقيض.
قد تعتقد أنه كلما كانت الصلات العاطفية على درجة عالية من القوة كانت تلك علامة نجاح وتميز لهذه الأسرة، ولكني اليوم أود أن أوضح أن الإفراط في التماسك يعيق النمو الذاتي لأفراد الأسرة، وقد يصل بأفراد الأسرة إلى حد الاضطراب.
تصاب الكثير من الأسر وخصوصاً في مجتمعاتنا المحافظة بحالة من التصلب والجمود على مستوى التماسك، فتصبح الأدوار ثابتة قوامها ممارسة التسلط من ذوي السلطة في الأسرة، بحيث يتسلط الآباء على الأبناء والإخوة الكبار على إخوتهم الأقل سنا، والأزواج على الزوجات وأحياناً العكس. كما أن شدة التماسك تخلق جوا من خانقا ، يحول البيت إلى زنزانة يسجن الجميع داخل جدرانها مكبلين بقيود التعلق والاعتمادية.
هذه الأسر المتصلبة عادة تتصف بدرجة متدنية من التكيف مع المتغيرات الذاتية ودرجة متدنية من الانفتاح على المحيط لأنها منغلقة لا تقيم إلا الحد الأدني من التفاعل بين الأسرة والمحيط مما يعزلها ويفقدها الاستفادة من فرصه.
لكن على الطرف النقيض من محور التماسك، هناك الأسرة المفككة التي نسميها كمختصين “الأسرة الفندق” والتي يتصرف كل فرد فيها بمعزل عن الآخرين، ويمارس أفرادها الدرجة القصوى من الانفتاح على المحيط حتى تفقد الأسرة كيانها وهويتها وتدخل في حالة من الفوضى العشوائية، تقودها إلى التصدع وفقدان الحدود.
إذن ما هي الحالة الصحية المطلوبة؟؟!
تماسك أسري بدرجة معقولة للحفاظ على درجة متزنة من التمايز الفكري والعاطفي بين أفراد الأسرة بحيث يستطيع كل فرد أن يتمايز عن الآخر ليفهم رغباته واحتياجاته الذاتية، مع توفر انتساب وولاء للأسرة يتناسب مع حيز الاستقلالية الفردية، وتوفر أمان نفسي لا يجر صاحبه للوقوع في براثن الحماية الزائدة التي تشكل عائقا أمام بناء الهوية الذاتية، أن تتماهى مع الآخر من أفراد أسرتك وترى ذاتك فيه دون الوصول إلى حد التلاشي والانصهار في كيان الأسرة.
ولا بد للأسرة التي تتمتع بصحة نفسية جيدة أن تحقق درجة من التكيف وتتمتع بالمرونة الكافية لتقبل التغيرات في الأدوار الذاتية لأفرادها نتيجة التقدم في العمر أو التغير في ظروف البيئة المحيطة، ومراحل حياة الأسرة متطلباتها المستجدة، بذلك تتكون منظومة أسرية معافاة ذات قوانين مرنة وحدود واضحة بين كيانها والعالم المحيط، ونتيجة توفر تلك السمات الصحية من التماسك والتكيف بدرجاتها المعتدلة تسمح الأسرة لأفرادها أن يعيشوا بحرية ليكتسبوا الخبرات في هذا العالم ويغتنموا من موارده وينطلقوا في سماء الحياة…