التدوين الأدبي للتاريخ ودوره في إكمال الصورة

بقلم : رنا الدقاق

إن من يعيش على شاطئ البحر يعتاد هدير الأمواج حتى لا يكاد يسمعها، ومن يتلقى التاريخ بصورته المعهودة يعتاده حتى يخبو ويتضاءل تأثيره فيه، فإذا ما قُيّض لحقبةٍ منه قلمُ مبدع ولغة أدبية تشف عن أرواح الناس حتى لتكاد ترسمها- فإنه ينتِج التاريخ إنتاجًا جديدًا.

والعلاقة العضوية بين التاريخ والأدب قديمة قدم هذين الحقلين من حقول العلوم الإنسانية، فكل إبداع هو جزء من التاريخ البشري، وكل تأريخ لا يؤرخ للمظهر الثقافي والإبداعي يبقى ناقصًا.

إن هذه الصلة التي تغذي التاريخ والأدب معاً تدفعهما خطوات إلى الأمام، ليتشكل باتحادهما عالم جديد يقدّم خدمة للحضارة في إيجاد شكل يعزز حضور التاريخ، فإنه حين يتحول إلى عمل أدبي تتكثف دلالاته بقدر قراءاته، ويخلق آفاقًا متعددة لا تستنفد فتوتها وجدّتها.

وتحتل الرواية المكانة الأولى بين الأنواع الأدبية التي اتجهت إلى التاريخ لتتخذ منه مادتها الخام؛ ولكنها لم تكن الوحيدة، بل شاركتها في ذلك السير الذاتية والمذكرات، يربط بينها جميعاً الأسلوب القصصي المتسم بالتشويق والإثارة.

أما الرواية فينقسم تناول الأدب للتاريخ فيها إلى نوعين، يستعيد الروائي في النوع الأول المناخ التاريخي فقط ثم يترك لنفسه قدرًا من الحرية داخل إطاره، وتُعد (ثلاثية غرناطة) لرضوى عاشور أيقونة هذا النوع في الأدب العربي المعاصر.

روت الكاتبة في ثلاثيتها قصة العرب والمسلمين الذين قُدر لهم البقاء في الأندلس بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها؛ ما عرّضهم للكثير من الظلم والقهر والتمييز العنصري، إضافة إلى التطهير العرقي وعمليات التذويب المنهجي في المجتمع الجديد، فسلطت الضوء على معاناة أسرة أبي جعفر الوراق، وجعلت منها نموذجًا للأسر العربية التي فضّلت البقاء في الأندلس بعد أن عاشت السقوط العربي فيها عام 1492 وأُجبرت على الخروج منها عام 1609.

تقصت الروائية في روايتها الماضي، وجلبت منه معلومات تاريخية، ثم دمجتها بالخيال الفني، لتخرج بالأحداث من اقتضاب التاريخ إلى سعة الأدب؛ فسعت إلى الإحاطة بحياة الناس في تلك الحقبة، وركزت اهتمامها على الشخصيات المنسيّة تاريخيّاً؛ من دون التركيز على الشخصيات الكبيرة التي كان لها دور مؤثر في الأحداث، وهذا ما أكدته بقولها: “حاولت استنقاذ حكاية بشر لم يلتفت إليهم التاريخ العربي والكتابة الأدبية”.

فعلى سبيل المثال؛ حين كتبت رضوى الحدث التاريخي الجلل وهو توقيع معاهدة تسليم غرناطة من قبل أبي عبدالله محمد الصغير بعد أن أعلن المنادي الخبر، أغنته عن طريق خيالها الأدبي الذي يطعّم التاريخ بالعاطفة والوجدان، ووجهت اهتمامها إلى أثره الدامي في نفوس الناس العاديين فكتبت:
“سار أبو جعفر خلف المنادي في حشد كبير من الناس. زاغت العيون من العيون، والرأس مال يحجب مرآته المكسورة ورعشة الجفنين، والذراعان انهدلتا على الجانبين. تحركت الأقدام وئيدة ثقيلة في فضاء صامت يتأكد صمته مع رنين صوت المنادي وحفيف أوراق الشجر الجافة”.

كان عمل رضوى عاشور “رواية للتاريخ” أكثر من كونه “رواية تاريخية”، كان سفراً عبر الزمن إلى أرض غرناطة، تتعرف فيها إلى أنهارها وأحيائها- نهر حدرة، ونهر شنيل، وجبل عين الدمع، وحي البيازين- ونسيجها المجتمعي؛ المهن التي عمل فيها سكانها، وطقوس الزواج والأعراس، فتقرأ عن صندوق العروس- صندوق مريمة- صورة ملونة زاهية.
“صندوق خشبي مستطيل عليه رسوم عصافير وزهور وغصون تميل منقوشة بالبرتقالي والليموني والفستقي والأخضر..
كان الصندوق كبيراً يمكن لمريمة حتى سنوات قليلة مضت أن تجلس فيه. تلح على أمها فلا تقبل إلا فيما ندر. تقفز مريمة داخله وتجلس متربعة فيه يشاركها قارورة لازوردية مملوءة بماء زمزم حملها جد من الأجداد إلى امرأته وهو عائد من الحجاز، ومنديل مطرز، وجلالة من المخمل الكحلي المقصب…. “.

أما النوع الثاني من التدوين الأدبي للتاريخ فتعيدك فيه الروايةُ إلى التاريخ بكل تفاصيله، إذ ينصبّ اهتمام كاتبها على التوثيق والتأريخ، متوخيّاً أقصى ما يستطيع من حدود الأمانة في النقل، وهذا النوع تمثله رواية (أبو صابر) لسلامة عبيد، التي يتضافر فيها الصدق الفني مع الصدق التاريخي، وهو ما دلت عليه مقدمة روايته حين وصفها بأنها “قصة رواها ثائر صادق، وكتبها قلم آثر أن يظل صادقاً”.

رواية (أبو صابر) وثيقة تاريخية كُتبت بمداد الوفاء لشخصية الثائر حمد ذياب، ويمكن النظر إليها بوصفها سيرة له، فهو شخص أمي من أبناء محافظة السويداء، قاتل الفرنسيين ثم أُسر، فحكمت عليه محكمة عسكرية فرنسية بالسجن عشرين عاماً، تلتها عشرون سنة في المنفى، وقد وثق سلامة عبيد من خلال هذه الرواية قصة الثورة السورية الكبرى أو ثورة عام 1925 ضد الوجود الفرنسي من ميسلون إلى الجلاء، بتفاصيل لا يُعنى بها التاريخ التقليدي الذي لا يذكر “حمد” وأخاه “حمود”، ولا والدهما الذي شُلت يده في الحرب ثم قضى حزناً على ولديه، ولا عروس حمد التي لم يشأ أن يتركها تنتظر مع أنه كان يحلم بالزواج منها، ولن يكتب تاريخ من ماتوا في السجون، أو من عادوا وقد شاخوا وقُيض لهم الارتماء في أحضان الأمهات من جديد كحمد ذياب، الذي منعه طيف أمه من الانتحار والخلاص كما فعل غيره..

تناول الراوي التاريخ من أسفل حين كتب هذه الأحداث من خلال سيرة حمد ذياب ورفاقه الثوار الذين دفعوا ثمن الثورة دماً ومعاناة ونفيًا ولم يذكرهم أحد إلا ذكراً عابراً، وليبقى وفيّاً لدقة النقل، ذكر أسماء الأماكن التي شهدت هذه الأحداث، فكتب: “وجلس أبو حمود يقص على ولده قصة الثورة… وامتدت الحرب إلى الغوطة والإقليم والنبك وحماه وبعلبك.. وفي المسيفرة كانت غلطة ورائحة خيانة، حصدونا بالرشاشات ومدافع الدبابات والطيارات ومع ذلك لم نتراجع، فدخلنا البلد في وضح النهار ندوس جثث رفاقنا ونتخطى الأسلاك الشائكة ونخطف السلاح من أيدي الجنود في الخنادق”.

لكن التقيّد الحرفي بالتاريخ ووضع حدّ لسلطان الخيال لم يمنع الأديب من الارتقاء بتأريخ الحقبة الزمنية التي تخيّرها إلى الأدبية، حين سدّ فجوات الحدث التاريخي البارد بالتصوير الوجداني، وألقى عليه غلالة شفيفة من الإنسانية، نفذ من خلالها إلى الأعماق، ليظل أثر حكايته عالقاً في النفس إلى زمن غير محدود.

يصف سلامة عبيد ما كان يدور في ذهن حمد ذياب في أثناء رحلة المساجين في السفينة إلى المنفى.. فيقول:
“وفي غمرة من هذا الشعور الممزوج بجنون اليأس كان بعضهم يقذف بنفسه في أمواج البحر… وخطرت لحمد مثل هذه الفكرة.. لماذا لا يضع حدًّا ًمبكراً للمصير الرهيب الذي ينتظره؟…. إلا أن طيفاً واحداً يلتثم بمنديل أبيض فضفاض ظل بنظراته المتوسلة المسهدة يبخّر من وراء الغيب كل محاولاته..”.

ولا تزال في أوراق التاريخ الأكاديمي فراغات كثيرة خلفها المؤرخون وراءهم، تنتظر من يملؤها ليصوغ الماضي حكايات تجعله يبدو طازجاً وكأنه وُلد للتوّ، عبر كتابة التاريخ المجتمعي، وهذه مهمة تقع على عاتق الأديب بحسب رضوى عاشور، لأن “الروائي له قدرة كبيرة على اصطياد التفاصيل، ومنها روائح المكان وجراح الزمن، وبفضل خياله الخصب يخرق كل الحدود التي يقف عندها المؤرخ عاجزاً”.