ما وجه الشبه بين الإنسان و”دراكولا” البحار؟

سان فرانسيسكو-(د ب أ):
“الجلكي” أو Sea Lamprey… سمكة اسطوانية تشبه الأنقليس أي ثعبان البحر ، تعيش في شمال وغرب المحيط الأطلسي، وغرب البحر المتوسط، وفي بعض أجزاء البحيرات العظمى شمال الولايات المتحدة. يصل طول هذه السمكة الطفيلية إلى 120 سنتيمترا ويمكن أن تزن 3ر2 كيلوجرام. وأهم ما يميز هذا الفصيلة من الأسماك، التي تقتات على دماء غيرها من الكائنات البحرية، فم قمعي مدجج بالأسنان بشكل دائري على نحو يجعلها أشبه بالوحوش الأسطورية التي تعيش في روايات الرعب.

وتوصل فريق من الباحثين في الولايات المتحدة إلى أن هذه السمكة التي يعود تاريخها إلى 500 مليون عام مضت تتشابه على المستوى الوراثي مع البشر، وأن الجزء الخلفي من المخ، الذي يتحكم في بعض الوظائف الحيوية بالجسم مثل ضغط الدم ونبض القلب، لدى كل من البشر وسمكة الجلكي، يحتوى على مجموعة متشابهة على نحو مثير للدهشة من المكونات الوراثية والجزيئية.

ويعرض الفريق البحثي، المتخصص من معهد ستورز للأبحاث الطبية، في الدراسة التي نشرتها الدورية العلمية Nature Communications لمحة عن نشأة وتطور أدمغة الكائنات التاريخية التي عاشت على وجه الأرض أو في أعماق البحار منذ قديم الأزل، وتوصل على نحو غير متوقع إلى وجود ضفيرة من الجزيئات اللازمة لتكوين الجزء الخلفي من المخ، والتي تتشابه لدى العديد من الفقاريات، مثل البشر وبعض فصائل الأسماك.

ويقول الباحث هوجو باركر، أحد المشاركين في إعداد الدراسة، إن هذا البحث الذي يتناول الجزء الخلفي من المخ يعد بمثابة نافذة للاطلاع على الماضي السحيق لنشأة بعض المخلوقات، ويعتبر نموذجا لفهم مدى تركيب وتعقيد عملية النشوء والارتقاء”.

ومثل غيرها من الكائنات الفقارية، تحتوي أسماك الجلكي على عمود فقري وهيكل عظمي، ولكنها تفتقر إلى جزء مهم في تركيب الرأس، ألا وهو الفكين. ونظرا لأن معظم الفقاريات، بما في ذلك البشر، لديها أفكاك، فإن هذا الاختلاف الصارخ أضفى على هذه الأسماك أهمية بالغة من أجل فهم أنماط تطور الخواص المختلفة لدى الفقاريات.

وذكرت رئيس فريق الدراسة أليس بيدويس من مختبر كروملاوف للأبحاث الوراثية والحيوية أن هذه الدراسة “تهدف إلى فهم طريقة تطور أمخاخ الفقاريات، وما إذا كانت هناك مواصفات فريدة تقترن بالكائنات التي لديها أفكاك، ولا يوجد لها مثيل لدى نظيراتها التي ليس لديها أفكاك”. وتوصل الباحثون في إطار هذه الدراسة إلى أن التركيب الجيني للجزء الخلفي من المخ متطابق بين أسماك الجلكي وأنواع الفقاريات التي لديها أفكاك مثل البشر.

وبحسب الموقع الإلكتروني “سايتيك ديلي” المتخصص في الأبحاث العلمية، نجحت هذه الدراسة الجديدة في التعرف على ضفيرة من الجزيئات الجينية التي تتحكم في كثير من الوظائف الحيوية لدى الفقاريات من خلال الجزء الخلفي من المخ، وتبين أن نفس الضفيرة الوراثية موجودة أيضا لدى أسماك الجلكي.

وتقول الباحثة بيدويس: “لقد توصلنا إلى أن أسماك الجلكي لا تمتلك فقط نفس الجينات مثل البشر فحسب، بل لديها أيضا نفس الضفيرة الجينية اللازمة لتطور الجزء الخلفي من الدماغ، مما يشير إلى أن هذا المكون موجود لدى سائر أسلاف المخلوقات الفقارية”. ويوضح الباحثون أن هذه الضفيرة الوراثية التي توصلت إليها الدراسة تتكون من حمض الريتينويك، وهو الصيغة المؤكسدة من فيتامين ألف، وتعتبر هذه الضفيرة هي الدائرة الكهربائية اللازمة لتكون الجزء الخلفي من المخ لدى الكائنات الأكثر تطورا، ولم يكن يعتقد من قبل أنها موجودة لدى مخلوقات أخرى أقل تطورا مثل أسماك الجلكي.

ولكن الأمر المدهش الذي توصل إليه الباحثون هو أن الدائرة الكهربائية الأساسية اللازمة للجزء الخلفي من المخ لدى أسماك الجلكي تتكون أيضا من حمض الريتينويك، وهو ما يعتبر دليلاً على أن البشر وهذه الوحوش البحرية يتشابهون على نحو لم يكن متوقعا على الاطلاق من قبل. ويؤكد مختبر كروملاوف: “لقد كنا نعتقد من قبل أنه نظرا لأن أسماك الجلكي ليست لديها أفكاك، فإن الأجزاء الخلفية من أدمغتها تختلف في تركيبها عن باقي فصائل الفقاريات”، مضيفا: “لقد أثبتنا أن هذا الجزء الاساسي من المخ يتشابه لدى أسماك الجلكي، مع كل من الفئران بل والبشر على حد سواء”.

ويقول العلماء إن هناك مجموعات معروفة من الجزيئات التي ترسم مصير الخلايا أثناء عملية نمو الكائن، ولكن الدراسة الجديدة توصلت إلى أن حمض الريتينويك يضطلع أيضا بدور مهم في رسم الخطوات الوراثية اللازمة لتكوين الجزء الخلفي من المخ، وأن هذا الجزء من المخ له خواص مشتركة لدى جميع الفقاريات، وأنه لابد من وجود آليات أخرى لتفسير التغيرات أو الاختلافات الضخمة التي تطرأ على كل فصيلة على حدة خلال كل مرحلة من مراحل النمو أو التطور.

وتوضح بيدويس وجهة نظرها قائلة: “نحن جميعا ننحدر من نفس الأصل، ولقد قدمت لنا سمكة الجلكي دليلا آخر يثبت هذه النظرية، والآن أصبح علينا أن ننظر بعمق أكبر لتاريخ عملية تطور الكائنات حتى نستطيع أن نحدد النشأة الأولى للدوائر الوراثية اللازمة لتكوين الجزء الخلفي من أمخاخ المخلوقات على اختلاف أنواعها”.