مرئيات

“إذ نادى ربه أنى مسنى الضر .. فاستجبنا له” أيوب عليه السلام.. ابتلاه الله بالأمراض ‏الجسيمة فلم يبقى من جسده سليمًا إلا قلبه ولسانه

المعجزات تبين قدرة الله عز وجل ولا تضاهيها قدرة أحد. والمعجزة تزيد الرسل تأييدا وتطمئنهم، وتزيد إيمان الناس واقتناعهم بنبيهم وبربهم خالقهم، وكذلك المعجزة تكون حجة الله على خلقه فلو لم تأتهم البينات والادلة لكان حجتهم يوم القيامة بكفرهم أنهم لم يأتهم البلاغ من ربهم، لذا فمن عدل الله تعالى ورحمته إرسال الرسل والانبياء بأدلة وبراهين ومعجزات للناس، ومن ثم يختارون الإيمان بهم أو الكفر ولهم الخيار وعلى الله تعالى الحساب والجزاء.
والمعجزة أمر خارق للعادة ، وعندما تأتي على يد أحد الأنبياء تكون من نفس النوع الذي برع به قوم هذا النبي، وهي تعجز الآخرين عن الإتيان بمثلها ، وهناك فرق بين المعجزة والكرامة فالمعجزة خاصة بالرسل والانبياء. أما الكرامة فهي خاصة بأولياء الله الصالحين، كرمهم الله بها للدلالة على صحة الطريقة التي يتبعونها.
قال الله تبارك وتعالى:‏ وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب (44) “سورة يوسف”‏ .
نسبه عليه السلام:
قيل هو أيوب بن موص بن رازخ بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل وقيل غير ذلك في ‏نسبه، الا أن الثابت أنه من ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام.وحُكي أن أمه بنت نبي الله لوط عليه السلام. وأما زوجته فقيل: إن اسمها رحمة بنت يوسف ‏بن يعقوب، وقيل غير ذلك. وكان عليه الصلاة والسلام عبدًا تقيًا شاكرًا لأنعم الله رحيمًا بالمساكين، يُطعم الفقراء ويعين ‏الأرامل ويكفل الأيتام، ويكرم الضيف، ويؤدي حق الله عليه على أكمل وجه.‏
يقول الله تبارك وتعالى:‏ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب (41) {سورة ص}‏ كان أيوب كثير المال ءاتاه الله الغنى والصحة والمال وكثرة الأولاد، وابتلاء بالنعمة والرخاء ولم ‏تفتنه زينة الحياة الدنيا ولم تخدعه ولم تشغله عن طاعة الله، وكان عليه السلام يملك ‏الأراضي المتسعة من أرض حوران، ثم ابتلاه الله بعد ذلك بالضر الشديد في جسده وماله ‏وولده فقد ذهب ماله ومات أولاده جميعهم، فصبر على ذلك صبرا جميلا ولم ينقطع عن عبادة ‏ربه وشكره، وفوق هذا البلاء الذي ابتلي به في أمواله وأولاده،
ابتلاه الله بأنواع من الأمراض ‏الجسيمة في بدنه حتى قيل: إنه لم يبقى من جسده سليمًا إلا قلبه ولسانه يذكر الله ‏عزوجل بهما، وهو في كل هذا البلاء صابر محتسب يرجو ثواب الله في الآخرة، ذاكرًا لمولاه ‏في جميع أحواله في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.‏
وطال مرضه عليه الصلاة والسلام ولزمه ثماني عشرة سنة وكانت زوجته لا تفارقه صباحًا ‏ولا مساء إلا بسبب خدمة الناس بالأجرة لتطعمه وتقوم بحاجاته، وكانت تحنو عليه وترعى له ‏حقه وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها وحسن معاشرته لها في حالة السراء، لذلك ‏كانت تتردد إليه فتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته ونوائب الدهر، وكانت تخدم الناس ‏لتطعمه الطعام وهي صابرة محتسبة ترجو الثواب من الله تبارك وتعالى.‏
وكثرت البلايا والأمراض على نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام طيلة ثماني عشرة سنة، ‏وهو صابر محتسب يرجو الثواب من الله تعالى، فدعا الله وابتهل إليه بخشوع وتضرع قائلا:‏ وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (83) {سورة الأنبياء}‏ ثم خرج عليه السلام لقضاء حاجته وأمسكت زوجته بيده إلى مكان بعيد عن أعين الناس ‏لقضاء حاجته فلما فرغ عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إليه في مكانه:‏ أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) {سورة ص}‏ فأمره الله تعالىأن يضرب برجله الأرض، فامتثل عليه السلام ما أمره الله به وأنبع الله تبارك ‏وتعالى له بمشيئته وقدرته عينين فشرب من إحداهما
واغتسل من العين الأخرى فأذهب ‏الله عنه ما كان يجده من المرض وتكاملت العافية وأبدله بعد ذلك صحة ظاهرة وباطنة، ولما ‏استبطأته زوجته وطال انتظارها، أقبل نبي الله أيوب عليه السلام إليها سليمًا صحيحًا على ‏أحسن ما كان فلما رأته لم تعرفه فقالت له: بارك الله فيك هل رأيت نبي الله أيوب هذا المبتلى؟ فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحًا، فقال لها عليه الصلاة ‏والسلام: فإني أنا هو.‏
وكان لنبي الله أيوب عليه السلام بيدران بيدر للقمح وبيدر للشعير فبعث الله تبارك وتعالى ‏بقدرته سحابتين، فلما كانت إحداهما على بيدر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، ‏وأفرغت السحابة الأخرى على بيدر الشعير الفضة حتى فاض وعم، وبينما كان أيوب عليه ‏السلام يغتسل خرّ عليه وسقط جراد من ذهب وهذا إكرام من الله تعالى لنبيه أيوب عليه ‏السلام ومعجزة له، فشرع عليه السلام يحثي ويجمع في الثوب الذي كان معه استكثارًا من ‏البركة والخير الذي رزقه الله إياه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى، فقال عليه ‏الصلاة والسلام: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك، رواه البخاري وأحمد .
من حديث أبي ‏هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، ورواه أحمد في مسنده موقوفًا، ورواه بنحوه ابن أبي حاتم ‏وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه بإسناد على شرط الصحيح.‏
وأغنى الله تبارك وتعالى عبده أيوب بالمال الكثير بعد أن كان قد فقد أمواله، ورد الله تبارك ‏وتعالى لأيوب عليه السلام أولاده فقد قيل: أحياهم الله تبارك وتعالى له بأعيانهم، وزاده ‏مثلهم معهم فضلا منه وكرمًا، والله يؤتي فضله من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.‏
يقول الله تبارك وتعالى:‏ وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فإستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ‏وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84) {سورة الأنبياء} ‏
أيوب يبر بيمينه ولا يحنث ، ‏ضاق الحال بزوجة أيوب عليه السلام ذات يوم فباعت نصف شعرها لبعض بنات الملوك ‏فصنعت له من ثمنه طعامًا فحلف أيوب عليه الصلاة والسلام أن شفاه الله تعالى ليضربنها ‏مائة جلدة، ولما أراد أيوب عليه الصلاة والسلام أن يبر بيمينه بعد شفائه أمره الله أن يأخذ ‏ضغثًا وهو الحزمة من الحشيش أو الريحان أو ما أشبه ذلك فيه مائة قضيب فيضرب بها ‏زوجته ضربة واحدة وبذلك لا يحنث في يمينه، ولقد شرع الله تعالى له ذلك رحمة بها ‏ولحسن خدمتها إياه وشفقتها عليه أثناء مرضه ومصائبه التي ابتلي بها طوال الثماني ‏عشرة سنة التي ابتلاه الله بها، ولأنها كانت امرأة مؤمنة صالحة تقية صابرة تؤدي حق زوجها ‏عليها وتحسن معاشرته في السراء والضراء، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى ‏وأناب إليه وخافه.‏
وذكر المؤرخون روايات كثيرة عن أيوب , وذكر المفسرون كذلك .. وأيوب هو نبي الله من نسل إبراهيم عليه السلام , وقد تزوج من ذرية يوسف بن يعقوب فتاة أسمها رحمة كانت مثله صلاحاً وتقوى , جارت زوجها في عبادته لله عز وجل , وفي حمده وشكره له , وفي تقربه إليه.
وقد اشتهر أيوب بين الناس بالصبر , وصفته مشهورة , ولنبدأ مع أيوب الغني , فقد كان رجلاً غنياً , ذا مال كثير , بسط الله له الرزق , وأفسح له طريق الثراء , حتى كان يملك قرية كاملة في دمشق تسمى « البثنية « وهي قرية تقع بين دمشق وأذرعات , ويملك ما فيها من مزارع خضراء منبسطة فسيحة , وله فيها بساتين مزهرة , وله بها منشآت وديار .
كانت الأبقار والشياه الحلوب , ترتع في مزارعه , وتنيخ في مرابضه الإبل الخفاف , والنياق الولو د, وتسرح بأرضه الخيل والبغال والحمير.
ولقد أفاض الله برزقه على عبده الصالح أيوب ففوق ما رزقه من نعمة المال , رزقه نعمة أخرى جزيلة محبوبة , تلك نعمة الأولاد من البنات والبنين.
فقد كمل له بذلك ما تمنّاه كل امرئ لنفسه من متع الدنيا ورفاهية الحياة , ولذاذة العيش , ونضرة النعيم .
فهل كان أيوب بما أعطاه الله من نعم الدنيا وبهجة الحياة منعماً مرفهاً , ينعم بجاه المال ويهنأ بخلف من البنين والبنات , ونسى كل ما عداه ؟ والحق يقال عكس ذلك , فلم يكن أيوب كذلك , فلم يبخل على نفسه وعياله , وكان لا يحب كنز المال.
كان أيوب ذا مال , ولكن كانت أمواله لمن حوله قبل أن تكون لنفسه , وكان منها زكاة وهبات وعطايا كان براً بكل من حوله ! يرعى غلمانه وخدمه قبل أن يرعى أهله , فلكل رجل من أتباعه زوجة ودار ومتاع , ولكل غلام مدّخر من المال .
وكان لا يطعم طعاماً وهو يعلم بمكان جائع يشتهي الطعام !
وكان لسانه لا يكف عن ذكر الله والحمد والتسبيح لربه ولا يفتر جنانه عن التفكير في الله عز وجل .
وتحدث الناس عن أيوب , ولهجت ألسنتهم بالدعاء له والثناء عليه , وعمرت قلوبهم بحبه والاخلاص له ! وكذلك أهل السماء من الملائكة ذكروا أيوب ذكراً حسناً .
كل هذا أغاظ إبليس , كثرة ذكر أيوب والثناء عليه , وإبليس أقسم أن يغوي البشر أجمعين , وبسبب ذلك طرده ربه من الجنة جزاء عصيانه , فقال كلمته المعروفة : رب , بما أغويتني وطردتني بسبب آدم لأزينن لذريته في الأرض , ولأغوينهم أجمعين .
واستطرد إبليس قائلاً : إلا عبادك المخلصين. وكان أيوب عليه السلام من عباده المخلصين .
وكانت محنة أيوب وقصة مرضه المشهورة هي محنته , ولعل أشهر ما ذكر عن هذه المحنة كانت هذه القصة التي جاء فيها :
تحدّث الملائكة , ملائكة الأرض فيما بينهم عن الخلق وعبادتهم , قال قائل منهم : ما على الأرض اليوم خير من أيوب , هو أعظم المؤمنين إيماناً , وأكثرهم عبادة لله , وشكراً لنعمته ودعوة له .
وسمع الشيطان ما يقال … فساءه ذلك , وطار إلى أيوب محاولاً إغواءه , ولكن أيوب بقي , قلبه هو الصفاء لله والحب لله .
وقد كان أيوب عليه السلام محصناً بإيمانه ضد وسوسة الشيطان , فما استطاع إبليس أن يغريه بشيء مما يغري به الأغنياء ! وما قدر على أن يدفع به إلى ما كان يدفع إليه أمثاله من الأثرياء !!
حاول إبليس عن طريق شياطين البشر أن يحرّض أيوب على ارتكاب المعاصي , فأتاه بشرذمة من الناس يزيّنون له اللهو والمجون والمتعة المحرّمة , ويدعونه إلى ترك التقشف , وإلى التهاون في العبادة لينعم نفسه بمباهج الدنيا , ويمتعها بما أوتي من نعم وجاه ومال .
ولكن قلب أيوب كان تقيّاً نقيّاً , فلم يستجب لما زيّن له ؛ وكانت نفسه مؤمنة ورعة , فلم تسمع ما دعيت إليه .
كانت متعة أيوب عليه السلام تكمن في أشياء كثيرة , كانت متعته في أن يكفل أيتاماً مات عنهم عائلهم , وكانت بهجته في أن يساعد بماله أرملة ذهب عنها رجلها , أو فقير أضرّ به فقره , أو عاجزاً أقعده عجزه , فيشعر بالسعادة لسعادتهم ويهنأ لهنائهم , ويشكر الله على أن هيأ له كل هذه السعادة وكل هذا الهناء .
وطال الأمد بإبليس دون أن يستطيع الوصول إلى غايته من إستمالة أيوب ببلاء لم يكن منتظراً , سُرّ له إبليس وفرح فعاود مع أيوب نشاطه من جديد , ونعود إلى أشهر رواية عن أيوب ومحنته فنقول : حين يئس الشيطان من إغواء أيوب , قال لله تعالى : يا رب إن عبدك أيوب الذي يعبدك ويقدسك لا يعبدك حباً , وإنما يعبدك لأغراض .
يعبدك ثمناً لما منحته من مال وبنين , وما أعطيته من ثروة وعقا ر, وهو يطمع أن تحفظ عليه ماله وثراءه وأولاده , وكأن النعم العديدة التي منحتها له هي السر في عبادته , إنه يخاف أن يمسها الفناء أو تزول .. وعلى ذلك فعبادته مشوبة بالرغبة والرهبة , يشيع فيها الخوف والطمع .. وليست عبادة خالصة ولا حباً خالصاً .
وقد ذكرت الرواية أن الله تعالى قال لإبليس : إن أيوب عبد مؤمن خالص الإيمان .. وليكون أيوب قبساً من الإيمان ومثالاً عالياً في الصبر .. قد أبحتك ماله وعقاره .. افعل ما تريد , ثم إنظر إلى ما تنتهي .
وهكذا انطلقت الشياطين فأتت على أرض أيوب وأملاكه وزروعه ونعمه ودمّرتها جميعاً.. وانحدر أيوب من قمة الثراء إلى حضيض الفقر فجأة .. وانتظر الشيطان أيوب .. وقال أيوب عليه السلام عن المال : عارية لله استردها .. ووديعة كانت عندنا فأخذها , نعمنا بها دهراً , فالحمد لله على ما أنعم , وسلبنا إياها اليوم , فله الحمد معطياً وسالباً , راضياً وساخطاً , نافعاً وضاراً , وهو الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء , ويضر من يشاء , ويذل من يشاء , ثم خرّ أيوب عليه السلام ساجداً وترك إبليس وسط دهشته المخزية .
وعاد الشيطان يقول لله تعالى : يا رب .. إذا كان أيوب لم يقابل النعمة إلا بالحمد , والمصيبة إلا بالصبر , فليس ذلك إلا إعتداداً بما لديه من أولاد .. إنه يطمع أن يشتدّ بهم ظهره ويسترد بهم ثروته .
وتستطرد الرواية فتقول : إن الله أباح للشيطان أولاد أيوب .. فزلزل عليهم البيت الذي يسكنون فيه فقتلهم جميعاً . أنبياء الله لأحمد بهجت ص 171.
وهنا قال أيوب داعياً ربه : الله أعطى .. والله أخذ .. فله الحمد معطياً وسالباً , ساخطاً وراضياً , نافعاً وضاراً .
ثم خرّ أيوب عليه السلام ساجداً وترك إبليس وسط دهشته المخزية .
وعاد إبليس يدعو الله , أن أيوب لم يزل صابراً لأنه معافى في بدنه , ولو أنك سلطتني يا رب على بدنه .. فسوف تكف عن صبره .
وتقول الرواية أن الله أباح جسد أيوب للشيطان يتصرف فيه كيف يشاء .. فضرب الشيطان جسد أيوب من رأسه حتى قدميه , فمرض أيوب مرضاً جلدياً راح لحمه يتساقط ويتقيّح .. حتى هجره الأهل والأصحاب .. ولم يعد معه إلا زوجته ..
ومرت الأيام , وتتابعت الشهور , وأيوب تزداد حالته سوءاً , حتى لم يعد يستطيع أحد أن يقترب منه لعفن قروحه , ونتن رائحتها , فبرم الناس به , ونفروا منه , وانقطعوا عن زيارته , وتذمّر أهله من جيرته وظلت زوجته هي الوحيدة التي تخدمه , وتقضي له حاجاته .
ومرت السنون وأهل أيوب لا يستطيعون على جيرته صبراً , ولا يحتملون له قرباً , وجهروا بإستيائهم , وأظهروا تذمّرهم بالأقوال والأفعال , فلم تجد رحمة بداً من أن تعرش لزوجها عريشاً في ظاهر المدينة وتنقله إليه .
وانتقل أيوب عليه السلام الذي كان يملك الضياع , ويسكن القصور إلى عريش من القش على قارعة الطريق , ورغم ذلك لم يتركه الناس لحاله , بل كانوا إذا مرّوا عليه أظهروا تذمرهم , وأبدوا تأففهم . وقالوا : لو كان رب هذا له حاجة فيه لما فعل به ذلك .
وهكذا ظل أيوب تمر عليه السنة تلو السنة وهو جسد ملقى في عريشه لا يصدر عنه حركة إلا حركة لسانه في فمه يذكر الله , ولا يسمع منه إلا صوت يردد اسم الله .
كانت رحمة زوجة أيوب تقوم بخدمة الناس لتكسب لها ولأيوب من طعامهما , وما يقوم بأودهما . ثم تعود إليه في نهاية اليوم بما تيسر لها الحصول عليه من طعام تطعمه وتسقيه , وتقضي الليل بجانبه ؛ فإذا أصبح الصباح عاودت ما فعلته بالأمس .
ولكن هذ الحالة لم تدم لإشمئزاز الناس الذين كانت تقوم بخدمتهم , لعلمهم أنها تقوم على خدمة أيوب المبتلى , وعلى غسل جروحه وتضميد قروحه , فأظهروا لها الإمتعاض من خدمتها لهم , ثم طردوها من خدمتهم .
فأصبحت « رحمة « بلا عمل وسدّت منافذ الكسب في وجه رحمة !
وفكرت رحمة وهداها تفكيرها إلى أن تذهب مع الصباح إلى سوق في ظاهر المدينة , ويدها قابضة على حزمة ملفوف بها شيء يبدو أنها تحرص عليه , وتعول من ورائه على خير كثير .
وبلغت رحمة السوق , واتجهت إلى الجانب الذي تعرض فيه حاجات النساء من زينة وعطر وملبس , وفتحت لفافتها بيد مرتعشة , وجلست مع البائعات , وكانت بضاعتها ضفيرة من الخيوط الذهبية الطويلة الناعمة , كانت بالأمس نصف شعرها , فباعتها إلى أحد النساء وأخذت ثمنها .
وابتاعت رحمة بثمن شعرها طعاماً وشراباً , وعادت إلى زوجها تطعمه وتسقيه , فقد كانت برّة وفية بزوجها . وبعد أن نفد ثمن شعرها ما بقي لها شيء تبيعه .
ولكن أيوب كان على صلابته وقوته , ويئس الشيطان فكر في رحمة فذهب إليها وملأ قلبها باليأس حتى ذهبت إلى أيوب تقول له : حتى متى يعذبك الله , أن المال والعيال والصديق والرفيق , أين شبابك الذاهب وعزك القديم ؟
وأجاب أيوب امرأته : لقد سوّل لك الشيطان أمراً .. أتراك تبكين على غرفات وولد مات ؟ قالت : لماذا لا تدعو الله أن يزيح بلواك ويشفيك ويكشف حزنك ؟ قال أيوب : كم مكثنا في الرخاء ؟!! قال رحمة : ثمانين سنة . قال أيوب : كم لبثنا في البلاء والمرض ؟ قالت : سبع سنين . قال : أستحي أن أطلب من الله رفع بلائي , وما قضيت فيه مدّة رخائي .
لقد بدأ إيمانك يضعف يا رحمة , وضاق بقضاء الله قلبك .. لئن برئت وعادت إليّ القوة لأضربنّك مئة عصا .. وحرام بعد اليوم أن آكل طعاماً من يديك أو أشرب شراباً أو أكلفك أمراً .. فاذهبي عني .
وذهبت عنه زوجته وبقي أيوب جسداً صابراً وحيداً , يحتمل ما لا تحتمله الجبال .. وأخيراً فزع أيوب إلى الله داعياً متحنناً لا متبرماً , ودعا الله أن يشفيه .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى