سنن الله في الكون
يُراد بسُنن الله -عزّ وجلّ- في الكون القوانين التي تحكم الكون، وحياة الناس قدراً بمشيئة الله، وتجري باطّراد وثبات وعموم في حياة البشر، فلله -تعالى- سنن في الأفراد، وسنن في الأمم، وسنن في الحياة وغير ذلك، وهذه السنن لا تتبدّل ولا تتأخّر، وتأتي مجتمعة فيخضع البشر لها في حياتهم، وسلوكهم، وتصرفاتهم، وبناءً على هذه السنن تترتّب النتائج في الكون، من نصرٍ، أو هزيمةٍ، أو قوةٍ، أو ضعفٍ، أو عزّةٍ، أو ذلٍّ، أو غير ذلك، وفي هذه السنن قال الله -تعالى- في القرآن الكريم: (فلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).
الخاصية الأولى تمتاز السنن الإلهية بثلاثة خصائص؛ الأولى: خاصيّة الثبات؛ والقصد بذلك أنّها غير قابلة للتغيّر أو التبدّل، فالله -تعالى- أودع هذه السنن في الكون، وجعلها قوانين صارمة تشبه المعادلات الرياضية إلى حدٍ بعيدٍ، فهي تنظّم حركة الكون كلّه، وحياة الناس، وتتحكّم في دورية الحضارات، فتوضح عوامل النهضة، وعوامل السقوط لكلٍّ منها، فالحياة لا تجري عبثاً دون أن تحكمها ضوابط ومعايير، وهذا ما يقرّره القرآن حينما يذكّر الناس بسنن الله -تعالى- في الكون والحياة.
الخاصية الثانية أمّا الخاصيّة الثانية لسنن الله في الكون فهي خاصيّة العموم؛ وهي تعمّ كلّ البشر وكلّ الخلائق على حدٍّ سواء، دون تمييز أو محاباة، لا يملك إنسان الخروج عنها، قال الله -تعالى- مبيّناً ذلك: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)، وبالتالي فأي سنّة من سنن الله -عزّ وجلّ- في الكون جاهزة للحاكمية على جميع الأمم والأفراد، فقانون وسنّة النصر مثلاً له معايير وضوابط لا تجامل أحداً، ولا تحابيه؛ بل تنطبق على الجميع بذات المستوى، وإذا تنبّه الإنسان لِما في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته رضي الله عنهم، من قصصٍ وعِبرٍ لوجد هذه السنن حاضرةً فيها، حاكمةً عليها، فقد كانوا إذا التزموا بقوانين النصر التي شاءها الله -عزّ وجلّ- انتصروا، وقهروا عدوّهم، أمّا إذا خالفوها بعصيان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- هُزموا وتراجعوا، وبذلك يتّضح أنّ سنة الله -عزّ وجلّ- كانت جاريةً عليهم رغم أنّ فيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إعلان الخاصية الثالثة فيما يخصّ الخاصيّة الثالثة من خواصّ سنن الله -عزّ وجلّ- فهي خاصيّة الاطّراد؛ ويُعنى بها تكرار هذه السنن وظهورها في أي ظرف وُجدت فيه مقوّمات ظهورها التي أرادها الله من زمانٍ ومكانٍ وأشخاصٍ وأفكارٍ، قال الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ)، وبذلك يكون اطّراد سنن الله -عزّ وجلّ- حُجّة على جميع الناس، المؤمن والكافر منهم، ويكون في ذلك ردّ على الذين يحاولون إثارة الشبهات حول نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، بقولهم إنّه لو كان نبيّاً مُرسلاً من عند الله فعلاً لما نال منه الكفّار في بعض المواقف والغزوات، كما حصل في غزوة أحد حين شُجّ رأسه وكُسر سنّه، فيقال لهم حينها أنّ سنّة الله في النصر والهزيمة مطّردة، فمتى ما توفّرت ظروف وقوعها وقعت، فهي حاكمة على رسل الله وأنبيائه كما هي حاكمة على جميع خلقه.
أمثلة من سنن الله في الكون من سنن الله -عزّ وجلّ- في الكون سنّة التدافع، والتي يخبر عنها الله -تعالى- في قوله: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ)، والمُراد بها أنّ الله -سبحانه- لا يُبقي الناس على حالهم أبداً، ولا يترك الدنيا كما هي، بل يدفع الأحوال ببعضها، ويدفع الناس ببعضهم البعض، فيدفع أهل الشرك بأهل التوحيد، ويدفع الباطل بالحقّ، ويدفع العاصين لله بالطائعين له، فيظلّ بذلك الصراع بين الحقّ والباطل قائماً مستمراً، فلن يأتي يوم على الأرض وليس فيها صراع بين الحقّ والباطل، ولولا هذه السنّة وهذا القانون الإلهي لبقي الظالم على ظلمه، ولدامت له سطوته وفساده، ولكنّ مشيئة الله تقتضي التغيير المستمر.
ومن سننه أيضاً الإصلاح؛ فهو لا يهلك القوم إن كان فيهم مصلحون، ومن أجل الإصلاح بعث الله رسله وأرسل أنبياءه، حتى إنّ رسول الله شعيب -عليه السلام- قال ذلك لقومه، كما أخبر القرآن: (مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ)، فالرّسل كانوا يبدأون دوماً بإصلاح المنكر الأكبر وهو الشرك بالله، ثمّ يتدرجّون في باقي المنكرات المتفشية في الأمم التي أُرسلوا إليها، فربما أصلحوا المنكرات الاقتصادية، كالغشّ في البيع، والتطفيف في الميزان، وربما أصلحوا المنكرات الاجتماعية كما كان من قوم لوط من إتيان الذكور بدل الإناث، وباستمرار وجود مصلحين في الأمم والأقوام فإن سنّة الله -عزّ وجلّ- تقتضي عدم إهلاكهم، وفي بيان هذه السنّة قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ). ومن سننه أيضاً: سنّة التغيير، التي قال فيها: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وتفيد سنّة التغيير أنّ الله -تعالى- لا يغيّر حال قومٍ من الراحة والرضا، إلى حال المشقّة والضنك أو العكس، إلّا بتغيير القوم لِما في قلوبهم، فإذا غيّروا ما في قلوبهم نحو طاعة الله تعالى، وامتثال أوامره، والعمل بما أراد، غيّر الله -عزّ وجلّ- حالهم إلى أفضل حالٍ ممكن، وأمّا إذا فعلوا عكس ذلك فعصوا الله -سبحانه- ولم يلتزموا أوامره فإنّه يغيّر حالهم إلى أسوء حال.[١٠] أهمية دراسة سنن الله في الكون لدراسة سنن الله -عزّ وجلّ- في هذا الكون أهمية كبيرة وفوائد عظيمة، منها: التعرّف على سنن الله -سبحانه- واجب شرعيّ، وضرورة للإنسان، فإنّ الله -سبحانه- أمر في القرآن الكريم بالاتعاظ من سننه في الأقوام السابقة، وفي طبيعة هذا الكون، والإنسان إذا تتّبع هذه السنن حصل له من الفائدة الشيء الكثير. تحليل الأحداث، وفهم التاريخ، وبذلك يستطيع الإنسان استشراف المستقبل، وتقييم الواقع، فأهل العلم يعرفون بسنن الله في الكون ما يحقّق الاستقرار والرّخاء، وما يحقّق الجهل والمرض وغيره كذلك. تحقيق النصر والفلاح في الحياة؛ لأنّه إن عرفها أخذ بأسبابها، وعمل على تحقيقها ببصيرة.