واشنطن (د ب أ) –
لا يزال النزاع المستمر حول جزيرة قبرص المتوسطية بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك، وبين دولتيهما، يشكل مصدرا كامنا لزعزعة الاستقرار، لدرجة أن بعض المحللين يقولون إنه بدون حل جذري لهذا النزاع سيظل الأمن الغربي في حالة دائمة من الهشاشة.
ويقول الدكتور سنان سيدي، خبير السياسات التركية في تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنتريست” الأمريكية، إنه ببساطة، سيكون حل المسألة القبرصية، آخر جزيرة مقسمة في أوروبا، أمرا حيويا للاستقرار في شرق البحر الأبيض المتوسط، ويمكن أن يسفر ذلك أيضا عن قائمة طويلة من المكاسب التي تتجاوز المصالح الجغرافية للجهات الفاعلة الإقليمية.
ويضيف سيدي أنه لكي نكون واضحين، فإن محاولة حل المسألة القبرصية ليست مهمة سهلة فقد بدأت وانتهت جهود عسكريين ودبلوماسيين وسياسيبن بأكملها في قبرص منذ أن قسم الغزو التركي الجزيرة عام 1974 وأدى إلى توتر العلاقات بين تركيا والجهات الفاعلة في شرق البحر المتوسط. وسيتطلب حلها استثمارات دبلوماسية كبيرة من جانب الولايات المتحدة، على غرار الدور الذي لعبته في حل الصراع في أيرلندا الشمالية وحروب البلقان.
وعلى أي حال، تدرك الولايات المتحدة بالفعل قيمة قبرص، وإن كان ذلك بدرجة محدودة للغاية. على سبيل المثال، من خلال رفعها مؤخرا حظر الأسلحة الذي فرض على الجزيرة منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حررت الولايات المتحدة جمهورية قبرص (الحكومة المعترف بها دوليا في الجزء الجنوبي من الجزيرة) لتسهيل شحن مخزوناتها الحالية من أسلحة الحقبة السوفيتية إلى أوكرانيا.
ويقول سيدي إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تحتاج إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك وإطلاق العنان للإمكانات الكاملة التي يمكن أن توفرها التسوية التفاوضية للمسألة القبرصية. ولا يزال الفشل في حل المسألة القبرصية يقرب المنطقة وبقية العالم من الحرب. ولم يكن هناك وقت اكثر أهمية لذلك مما هو عليه الحال في الحقبة الجديد للمنافسة بين القوى العظمى التي دخلناها.
وكادت التسوية التفاوضية بشأن قبرص أن تحقق النجاح في عام 2004 تحت رعاية الأمين العام الراحل للأمم المتحدة كوفي عنان. وكانت التسوية التي أطلق عليها اسم “خطة عنان” ستعيد توحيد الجزيرة من خلال دمج الجزء الشمالي الذي تحتله تركيا من المستعمرة البريطانية العثمانية السابقة في اتحاد يضم دولتين. وكانت المفاوضات طويلة ومؤلمة ، حيث كان على كل جانب تقديم تنازلات صعبة.
ومن جانبها، كانت تركيا ستوافق على إزالة الجزء الأكبر من وجودها العسكري من الجزيرة، الذي يبلغ قوامه نحو 30 ألف جندي. كما وافقت أنقرة على التخلي عن الأراضي التي استولت عليها خلال الغزو. وكان على القبارصة اليونانيين أن يتصالحوا مع تقاسم السلطة مع نظرائهم الأتراك في حكم الجزيرة. علاوة على ذلك، لو نجحت الصفقة، لكانت اللغة التركية قد أصبحت لغة رسمية للاتحاد الأوروبي، مما يعزز جهود تركيا لتصبح عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن جميع الأطراف اتفقت على التفاصيل، إلا أن الاتفاق انهار في نهاية المطاف بسبب تصويت القبارصة اليونانيين بـ “لا” في استفتاء عام. وفشل الاستفتاء لسبب واحد بسيط، وهو أنه كان سوف يسمح لجمهورية قبرص بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بغض النظر عما إذا كان قد تم التوصل إلى تسوية مع الأتراك. وبعبارة أخرى، لم يكن لدى القيادة حافز يذكر للسماح للخطة بالنجاح. وبعد زوال الخطة، أدت السنوات التي تلت ذلك إلى عودة جميع الأطراف إلى إلقاء اللوم على بعضها البعض لعدم وجود تسوية جديدة. علاوة على ذلك، أدى انضمام جمهورية قبرص إلى الاتحاد الأوروبي كجزيرة مقسمة إلى تدهور العلاقات بين أنقرة وبروكسل. وعند هذه اللحظة، لا تركيا ولا اليونان ولا الجانبان في قبرص على مقربة من التوصل إلى تسوية. وتصر تركيا على الموقف غير الواقعي المتمثل في حل الدولتين، في حين تشعر قبرص واليونان بالتبرير نسبيا في القيام بالحد الأدنى للعودة إلى طاولة المفاوضات.
ويمكن القول إن التعاون لتأمين إطار أمني أوروبي وعبر أطلسي مشترك يشكل جزءا لا يتجزأ من كل من حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي هو أهم اعتبار أمني استراتيجي منذ نهاية الحرب الباردة.
ويمكن القول أيضا إن قدرة روسيا على غزو أوكرانيا دون أي تخوف، مرتبطة بالافتقار إلى بنية أمنية شاملة توحد الناتو والاتحاد الأوروبي.
ويرتبط بهذا الأمر حاجة أوروبا الملحة الآن لإنهاء اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي. ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، شهدت أوروبا انخفاضا كبيرا في إمدادات الغاز من روسيا. ويكمن مصدر بديل وقابل للتطبيق للغاز الطبيعي لتلبية الطلب الأوروبي داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص. ومن خلال التعاون مع الدول التي تشكل الآن منتدى غاز شرق المتوسط، فإن استخراج مصادر الغاز إلى أوروبا عبر اليونان لديه فرصة جيدة ليكون مجديا تجاريا. ومع ذلك ، فإن تركيا ليست جزءا من المنتدى، ويرجع ذلك أساسا إلى أنها لا تعترف بقبرص.
ونتيجة لذلك، تطعن أنقرة في حق قبرص في منح عقود الحفر لشركات النفط الغربية، وذلك أساسا من خلال نشر سفن التنقيب والحفر الخاصة بها في المياه القبرصية (واليونانية)، وغالبا ما ترافقها عناصر من البحرية التركية.
وأخيرا، وربما بشكل عرضي، يمكن لاتفاق بشأن قبرص بوساطة أمريكية أن يكون دافعا لإحياء العلاقات الأمريكية التركية، التي بدأت تتدهور بشكل حاد بسبب خلافات كبيرة حول سوريا والقتال للقضاء على تنظيم “داعش”. ومنذ ذلك الحين، ساءت العلاقة الثنائية بين “الشريكين الاستراتيجيين” المفترضين بشكل كبير، لدرجة أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اضطرت إلى فرض عقوبات على تركيا بسبب إصرار الرئيس رجب طيب أردوغان على شراء تكنولوجيا الدفاع الصاروخي الروسية في عام 2019 بدلا من البدائل الغربية.
وبسبب فقدان الثقة بشكل أساسي من كلا الجانبين، وصلت السمية في العلاقة إلى مستويات غير مسبوقة. ولم يتحدث الرئيس جو بايدن مع أردوغان في الأشهر الثمانية عشر الأولى من ولايته، في حين تواصل تركيا عرقلة انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي. وقد يكون الاستثمار الدبلوماسي الأمريكي في المشكلة القبرصية هو المطلوب لإحياء الشراكة.