أخبار رئيسية

رواية (الجريئة) لصاحب السمو الدكتور سلطان القاسمي

رواية خُطّت بمداد الحقيقة

 

قراءة بقلم : رنا الدقاق

 

ما إن يلج القارئ هذا العالم الروائي المصغّر الذي يحمل عنوان (الجريئة) من بوابته، وهي المقدمة، حتى يتناهى إليه صوت مؤلفه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي واصفًا روايته بالقول: “هي رواية حقيقية موثقة توثيقاً محكمًا”، معبّرًا بذلك عن الطبيعة الأدبية لعمله من حيث إنه رواية، والسمة التاريخية التي يتسربل بها من حيث إنه عمل موثق يعتمد على مصادر تاريخية كثيرة.

 

 

انصبّ اهتمام كاتب رواية (الجريئة) على التوثيق والتأريخ، متوخيًّا أقصى ما يستطيع من حدود الأمانة في النقل، فتميزت الرواية بطابعها السياسي الحميم، إذ تبدأ أحداثها عندما أبدى ملك فارس رغبته في التحالف مع فرنسا لاحتلال مسقط بعد أن سيطر العمانيون على البحار المحيطة بفارس، وقد لقيت هذه الرغبة القبول لدى فرنسا التي ترغب بأن تكون لها تجارة مع بلاد فارس. فكُلّف السيد جين بابتسيت فابر بمهمة إعداد البعثة الدبلوماسية إلى فرنسا وأنفق على ذلك الكثير من المال، حتى اضطر إلى اقتراض مبلغ يبلغ 8000 ليرة فرنسية من شابة فرنسية تدعى “ماري بيتي” ووعدها بإعادته حين يتسلم راتبه، ولكنه لم يفعل. فبدأت الشابة رحلة طويلة حافلة بالأحداث التاريخية في محاولة لاستعادة أموالها، لجأت فيها إلى الصدق حينًا وإلى التنكر والادعاء حينًا آخر، من دون طائل، وانتهى بها الأمر إلى السجن والمحاكمة..

****

تدور رواية (الجريئة) حول حوادث تاريخية وقعت بالفعل، لذا فقد هيمن التاريخ عليها وطبعها بطابعه حتى في طريقة السرد الذي حافظ على تراتبية الزمن وتسلسله، لأن التاريخ هو مرجعية هذا العمل وجوهره، وليس تقنيات القص الحداثي، حتى إن المؤلف عمد إلى تقديم التواريخ باليوم والشهر والسنة بدقة المؤرخ في مواضع كثيرة من مثل: “وفي شهر نوفمبر عام 1703، في الثاني من شهر مارس عام 1705، في الثامن من شهر إبريل عام “1705، حتى يكون آخر تاريخ تذكره الرواية هو: “الثامن من شهر مارس عام 1714″، فقصّ في 88 صفحة من القطع الصغير أحداثاً تاريخية وقعت خلال أحد عشر عاماً، ولم يكن ذلك ليتأتى لسموّه إلا باعتماد منطق الاختيار، ونقد التاريخ، في رحلة شاقة تتغيّا البحث عن الحقيقة التي عساها أن تكون مخبّأة في عمق الكتب والمصادر.
****

التقط سموه من التاريخ إحدى فتراته التي تضمنت أحداثًا تاريخية ذات صلة بالمنطقة، وعمل على تشكيلها وإعادة بنائها لتكون عملًا روائيًّا حافلًا بالمعلومات التاريخية الغزيرة وأسماء الأمكنة التي يُحدد مواقعها على نحو وثائقي، فإزمير هو الاسم الجديد لـ “سميرنا”، ومدينة “يريفان”- التي كانت مسرًحا لأحداث مهمة في الرواية- مدينةٌ أرمنية كانت محتلة من قِبل فارس، وعلى الرغم من ذلك لم يقف التقيّد بالتاريخ عثرة في وجه البناء الفني للرواية، وتقديم الشخصيات والصراع العنيف الذي يضطرم بينها بطرق فنية جذابة أظهرت ما لم تظهره كتب التاريخ، وحققت درجة عالية من التوتر الدرامي، مع الاتسام بالحياد والصدق من حيث إنها عمل واقعي من الدرجة الأولى.

 

****
وعلى الرغم من أن القارئ يلمح وجود تعليقات للمؤلف مرتبطة بالأحداث، فإنها لم تكن مصاحبة لمسار الحدث على نحو يحرف العمل عن مساره التوثيقي، بل جاءت لأغراض متعلقة بتفسير الخطاب المسرود من دون أن تدخل في صميم بنية العمل، كما في جاء في تفسير انهيار ماري بتي في المحكمة بعد أن باتت خسارتها قضية استرداد أموالها قاب قوسين أو أدنى، بأن وراء هذا الانهيار سبب آخر يذكّر به المؤلفُ القارئ فيقول: “انهارت ماري بتي وأخذت تبكي، لقد كانت متعبة مما تعانيه من النزيلات في الملجأ”.

***
تناولت الرواية الأحداث بلغة قريبة مباشرة لا توغل في الأدبية التي تخرج التاريخ عن طبيعته، وهي في الوقت نفسه لا تقدّمه جافًّا عقيمًا، وهو ما يمنحه طلاوة الحكاية ورواء العمل القصصي، مع استبعاد الخيال حرصًا على الحقيقة، لكنها تخيّرت من مصادرها المعتمدة ما يثير شهية القارئ للقراءة، ويدفعه إلى المتابعة؛ من ذلك التقاطها بعض التفاصيل الصغيرة التي قد لا تحفل بها كتب التاريخ التقليدي، ولا يخفى ما لهذه التفاصيل التاريخية من سحر لا يقاوم، فمن لا يستهويه أن يعرف الهدايا التي حملتها البعثة الفرنسية إلى ملك فارس! وقد ذكرت الرواية ذلك بالتفصيل فقالت إنها كانت “ثلاثًا وثلاثين ساعة جيب، وست ساعات حائط، وعشرين صندوق فواكه مسكرة مغربية وسجادة واحدة مطرزة….. “الخ.

 

كما اهتمت الرواية برصد الجانب الإنساني في الأحداث التي ترويها في الكثير من المواضع، بوصفها تدوينًا فنيًّا يؤدي دورًا محوريًّا في جبر النقص في التاريخ التقليدي، من ذلك المشهد الدرامي الذي جمع ماري بيتي، مع خان مدينة “يريفان”، إذ سعت ماري لإنقاذ الأب دي مونيي من الإعدام بعد أن رفض خان يريفان طلبها للعفو عنه ثلاث مرات، تقول الرواية: “ركعت ماري عند خان يريفان… كان الأمل ضئيلًا في إنقاذ دي منيي فوقفت ماري بيتي فجأة وقالت لخان يريفان إنها ستتبع الأب دي مونيي إلى المشنقة لتموت معه، كان خان يريفان رقيق الشعور تجاه تلك الكلمات الأخيرة ومنحها العفو الذي طلبته”.

 

لقد أنشأ سموّه عالم رواية (الجريئة) من الوثائق التاريخية، وتمكّن من بث الحياة فيها من جديد حين قدمها من خلال تجربة إنسانية حقيقية، ركزت على شخصية جمعتها بالعالم المحيط علاقة متوترة، بعد أن دخلت دهاليز السياسة، لتعيش حياة تقلبت بين النصر حينًا والهزيمة والإخفاق أحيانًا، ولكن سمتها الملازمة كانت الجرأة، التي مثّلت عتبة الرواية الأولى من خلال عنوانها، فوسعت الدلالة المركزة على ذلك في المحتوى القصصي من الداخل.

 

لقد أنشأ سموّه عالم رواية (الجريئة) من الوثائق التاريخية، وتمكّن من بث الحياة فيها من جديد حين قدمها من خلال تجربة إنسانية حقيقية، ركزت على شخصية جمعتها بالعالم المحيط علاقة متوترة، بعد أن دخلت دهاليز السياسة، لتعيش حياة تقلبت بين النصر حينًا والهزيمة والإخفاق أحيانًا، ولكن سمتها الملازمة كانت الجرأة، التي مثّلت عتبة الرواية الأولى من خلال عنوانها، فوسعت الدلالة المركزة على ذلك في المحتوى القصصي من الداخل.

 

يبقى أن نشير إلى أن رواية (الجريئة) التي صدرت عن منشورات القاسمي عام 2022 تمثل إضافة إلى رصيد صاحب السمو في حقل الكتابات التاريخية الذي يحظى باهتمام سموه، ومنها (سيرة سلاطين كلوة) و(الشيخ المتصوف راشد بن مطر القاسمي) الصادرتان في العام نفسه، ورواية (الشيخ الأبيض) الصادرة عام 2019، ورواية (بيبي فاطمة وأبناء الملك) الصادرة عام 2018، وغيرها من المؤلفات التي أثرت المكتبة العربية بمؤلفات جادة تؤمن بالدور المحوري للتاريخ في فهم الحاضر واستشراف المستقبل.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى