جرح الغياب

بقلم / د. ولاء قاسم

 

تتجلى الكثير من الاضطرابات النفسية في عصرنا كنتاج لتجارب الطفولة المؤلمة، حيث يتوارى الأطفال خلف جدران من العزلة والشك بالذات ، لأنهم ترعرعوا في كنف أباء أنانين يتمركزون حول ذواتهم أو أباء غير ناضجين عاطفياً عجزوا عن كسر سلسلة من الأنماط العاطفية المؤذية التي ورثوها واستمروا في نقل الأذى العاطفي الذي عانوا منه في طفولتهم إلى صغارهم .

 

غياب البيئة الحاضنة قد يكون قهرياً بفعل الموت أو الطلاق، أو السفر . لكنه أحياناً يكون غياباً مجازياً فقد تتوفر بيئة حاضنة ظاهريا لكنها غائبة شعورياً فيكون الغياب في صورة هجر أو إهمال عاطفي، حيث يتملص الآباء عن دورهم في إشباع حاجة الطفل العاطفية وهو نوع من الغياب يخلف ندوباً غائرة وجروحاً تتغلل في أقصى بقاع النفس وقد لا تشفى إلا بتدخل اختصاصي .

الحرمان العاطفي ليس فقدان للمحبة فقط ولكنه فقد للذات فوجود الوالدين وحضورهم العاطفي يشكل عنصراً هاماً في معادلة تكوين الشخصية ويشكل الإهمال ورفض الحميمية العاطفية تجربة غامضة ومؤلمة تنتج مشاعر قاسية من الوحدة والإحباط الوجودي ، حيث يقدّم الآباء لأطفالهم الطعام والأمان، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على بناء روابط عاطفية حقيقية مما يخلق حالة من الخواء الباطني تلازم الشخص طوال حياته ، تسكنه وتؤثر على قرارته وتوجهاته ، خاصة في علاقاته الزوجية والاجتماعية، مما يجعل التحدي الأكبر هو تجاوز تلك الجروح العاطفية المتراكمة وتداعياتها.


الأشخاص الذين عانوا من الإهمال العاطفي يعيشون في حالة من قلق الانفصال، تتفعل عند بروز أي مؤشرات تهديد في محيطهم فهم يشعرون بعدم الطمأنينة، ويغمرهم خوفٌ دائم من الوحدة. هذا يؤدي إلى تعلق رضوخي بالأشخاص الموثوقين لديه فيظل يتجول في حياته هاربًا من شبح الوحدة والغربة التي يعدها تهديداً لسلامته الذاتية فجرح الهجر يصنع منه شخصية عارية شعورياً ولاجئة نفسياً . وقد أشار العالم جون بولبي في أبحاثه إلى أن جميع أشكال القلق التي يواجهها الإنسان تنبع من قلق الانفصال عن مصدر يوفر الحماية، أكثر من كونها ردود فعل على مخاطر مجهولة. وهنا ، تبرز العلاقة مع الوالدين كحجر الزواية في تأسيس الصحة النفسية التي تقوم على الطمأنينة القاعدية ، وأي نقص في اشباع الحاجات العاطفية يترك بصماته في على مستوى الشخصية أحياناً وعلى مستوى السلوك أحياناً أخرى فمن المعلوم أن معظم الانحرافات السلوكية هي نتيجة حاجة لم يتم إشباعها .

الهجر العاطفي يحرم الأشخاص من تطوير ادواتهم وتفعيلها لمواجهة الحياة ويدفعهم إلى التستر على احتياجاتهم، فيختارون الاكتفاء بأقل الحقوق والضرورات، ساعين لإرضاء الآخرين وكأن ذلك هو الثمن الذي يدفعونه مقابل الاتصال. يسعى هؤلاء الصغار إلى مغادرة مرحلة الطفولة على عجل ، متطلعين نحو النضج بشكل متسارع، فيقفزون إلى البلوغ مبكراً، مظهرين قدراً من النضج والأهلية قد يفوق أقرانهم، لكنهم يظلّون وحيدين في أعماقهم ويسعون إلى الإنتماء، لكن المؤسف أن هذا السعي ينتهي بهم غالباً إلى قبول الاستغلال في علاقاتهم. فالأجزاء الأكثر بدائية في عقولهم تخبرهم أن الأمان لا يتحقق إلا من خلال الإلفة ، فيكونون على استعداد للتضحية بأي شي لتجنب مشاعر الوحدة العميقة التي ترافقهم منذ الطفولة. ومن المعروف بين المعالجين النفسيين أن التحرر من تأثير والدين مهملين أو غير ناضجين عاطفياً هو السبيل لإستعادة السلام الداخلي والإكتفاء الذاتي. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عندما ندرك أن إهمال الوالدين لم يكن مرتبطاً بنقص فينا أو ذنب اقترفناه ، بل كان نتاجاً لتجربتهما العاطفية ، فهم بشر لهم تجاربهم المؤلمة التي شكلت تلك الانماط العاطفية فالإهمال لا يكون دوماً خياراً واعياً من الوالدين الذين عاشا بدورهما قصصا لم ترو وحكايات من الألم والصراع قد لاتقل مرارة عن حكايتنا . قد تكون رحلة الشفاء شاقة لكن من خلالها سنتمكن من أن نفسح المجال للغفران ليملأ ساحات قلوبنا فالغفران هدية للذات قبل الآخرين به نحرر طاقاتنا المعطلة ونستعيد سلامنا المسلوب ، وعندما نتحرر من الشكوك التي تعترينا حول استحقاقنا للحب سوف ننهض من تحت أنقاض الماضي وقد ننخرط في علاقات شافية ، قد لاننسى الألم لكننا سنحوله الى حكمة وسندركه كجزء من تجربة إنسانية غنية ومعقدة .