جيل المؤسسين

بقلم / د. فاطمة محمد خميس

” نحن جيل المؤسسين ” صدحت مضيفتي بهذه العبارة بعنفوان استوقفني وتذكرت كيف حدثتني عنها ابنتها بفخر: “والدتي “أم خالد” ألم تسمعي بها”، فاعتذرت لها مقرّة بتقصيري في معرفة والدتها الكريمة لتدعوني بدورها لزيارة ودية للتعرف عليها. وحين الزيارة فوجئت بأن “أم خالد” سيدة استثنائية على وجوه كثيرة فقد وجدتها متحدثة مفوهة وذات أفكار منظمة تنتقل بينها بسلاسة، واختصر الحديث معها فصولا طويلة قرأتها في تنظير القيادة. أعتقد أن أفضل لحظات الباحث هي تلك التي يلتقي فيها بشواهد حيّة للنظريات التي يؤمن بها، وكان لقائي بمضيفتي إحدى تلك اللحظات القيّمة التي تطابقت فيها المعرفة النظرية بالواقع. تحدثت مضيفتي بأريحية وتلقائية عن كيفية إدارتها للعاملين في مزرعتها، ثم تعاملها مع أبنائها وإدارتها لمنزلها وودّها مع جيرانها، مما ذكّرني بمقولة متوارثة في مجتمعنا من أن “البيوت الأصيلة تضم جواهر مكنونة”.
ولو أني طبقت بعضا من التنظير القيادي لشخصية هذه السيدة لقلت أن أقوى سماتها القيادية هي وضوح الرؤية، وهذا الوضوح يتجلى في عبارتها ” نحن جيل المؤسسين ” التي كررتها مرارا في حديثها. وهي سمة تعكس ارتباط أفراد المجتمع الإماراتي بقياداتهم وتفصيل أدوارهم المجتمعية وفق مسيرة قادتهم، وهو ارتباط ينم عن الوعي بمعطيات الحياة حولهم ويضيف بعدا زمنيا وتاريخيا لأدوارهم التي قد يعتبرها البعض من المسلمات، والمثال هنا يتجلى في رؤية “أم خالد” لدورها كأم وزوجة وربة منزل. وتتجلى سمة أخرى في حديثها وهي الوعي بأهمية توارث القيم وهذه قيمة يغفل عنها الكثير، فمثلا مضيفتي لم تنفك تُرجع الفضل في توجيهها لأبنائها وإدارة ما تحت إمرتها لما تربت عليه من والديها وقادة مجتمعها ولم تحصره في شخصها فقط. وهذه برأيي تمد الأبناء على وجه الخصوص بالإحساس بالأصالة وجذور قيمهم وهو بعد زمني آخر يجعلهم أكثر ثباتا وقوة في توجيه مساراتهم الحياتية تعليما وعملا وتعاملا.
وهذه السمة الأخيرة تذكرني بحديث آخر مع زميلة مختصة في التربية والتي لا تنظر بتفاؤل إلى فيض المعلومات والإرشادات التربوية التي يمطرنا بها “مختصون” عبر الوسائط الاجتماعية دون أدنى تقنين. واتفقنا أنا وزميلتي على أن للمرأة أدوار في المجتمع لا يمكن تعويضها بغير صاحبة الشأن نفسه فمثلا الأم والجدة والأخت والخالة والعمّة أفراد من النادر أن يعوضن بغيرهن، وما الأشخاص الطارئون من الخارج – مهما علا شأنهم علما وتأثيرا – إلاّ عوامل مكمّلة لحضورهن الأساسي في أسرهن. فتوارث الأجيال للقيم من منابعها الأصيلة ركيزة لحياة الأمة وليس الأسرة فقط، وقد أدركت أمهاتنا وجداتنا هذه المسؤولية بفطرة سوية صقلتها موروثات دينية وثقافية راسخة عبر مئات السنين. وهي موروثات ضمنت لحضارتنا العربية والمسلمة الازدهار رغم محن قاسية مرّت وتمر عليها، وهي محن اندثرت حضارات أخرى في مواجهتها. وهذه الحقيقة تختصر عمق عبارة “جيل المؤسسين” وقيمة أفراده وعطائهم المشكور، رحم الله من رحل منهم وبارك في الباقي منهم وجزاهم جميعا عنّا وعن أجيالنا القادمة خير الجزاء.