بعد الحروب والكوارث والأحداث الكبرى، وعندما تتلون تفاعلات الناس مع ذواتهم بتراجيديا الحزن، يصبح الاسترسال في الشكوى واستعذاب الآلام ظاهرة شائعة في بعض الأوساط. حيث تنعكس ثقافة الندب كأحد أبرز اشكال التعبيرات الإنسانية، تجسدها آهات الأغاني ومآسي الأفلام ومراثي القصص الشعبية، حتى أصبح اجترار المرارات جزءًا لا يتجزأ من الهوية و شَكل اليأس وفقدان الأمل معالم الذاكرة الجماعية.
تلك الممارسة قد يعتبرها الناس مصدراً للسلوى وللتفريج الانفعالي عما يحتقن في النفوس و يجيش في الصدور ، لكن انخراط في الناس في هذه الأجواء الملغومة وميلهم إلى الانغماس في الأنين والآهات والاستئناس بتلك الحالة هو انكار لتعاقب الخير والشر وتعليق للتاريخ واجترار للمأساة وتعميم “للاكتئاب “بتقديمه بطريقة تُغرق الناس في دوامته.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما أتناوله في هذا الطرح يختص بالإكتئاب الاستجابي “الوجودي ” الناتج عن مشاعر الخسارة والهزيمة الوجودية وليس الإكتئاب المرضي داخلي المصدر الناتج عن خلل في بعض الموصلات العصبية كالسيروتنين والنورإيبفرين .
الإكتئاب الإستجابي تعبير عن مشاعر المسئولية الذاتية عن فشل المشروع الوجودي و العجز عن تحقيق الذات نتيجة ظروف وأحوال الحياة التي تعمل ضد رغبات الإنسان فتكون مشاعر الذنب هي الحاكمة في تلك المرحلة ،فيشن المكتئب حربا على ذاته شعارها التبخيس وانعدام القيمة والجدارة ، ويحاول جاهدا تحطيم ذاته المهزومة ليتخلص من آلام الجرح النرجسي ( جرح فقدان قيمته في عين ذاته ) .
ليس من النادر أن يحدث الاكتئاب الوجودي كأحد الاستجابات للصدمات التي يتعرض لها الناس في الحروب والكوارث والأحداث المفجعة المفاجأة التي لم يتهيأ الإنسان لمجابهتها فيظل مزهولا تجاهها خاصة عندما يستشعر انكساراً في مجرى حياته وبتراً في تاريخه ، فيجد نفسه مهزوماً أمام واقع يستعصي على الاستيعاب .
وتتعمق تلك الآلام وتزداد نزفاً كلما حصل لقاء فاشل بين الشخص المصدوم والواقع الجديد ، فتبقى تلك اللحظة “التي اخترق فيها الواقع الفعلي قلب الواقع النفسي محدثاً ثغرة وجودية لاتُسد وتمزقا عنيفا في الأنا ” حاضرة في ذهنه لا يستطيع لها تجاوزاً ، ووفقا لأدبيات التحليل النفسي فإن تلك الحالة من الاكتئاب تسلب الإنسان قدرته على إدارة الديمومة ( توجيه الذات من الحاضر الى المستقبل ) فيتجمد الزمن ويدخل العقل في حالة من العطالة وقد يتدهور الإنسان إلى حالة من الإجترار القهري للمأساة .
تجمد الديمومة والعطالة والإجترار القهري كلها أعراض للإكتئاب وهي بمثابة حرب على الذات تنذر بتعطيل الإمكانات وهدر القدرات وتضاعف مشاعر الهزيمة تُدخل الشخص الى حلقة مفرغة ، والخطير في الأمر أنه بالنظرة التبخيسية الى الذات وإمكاناتها تقترن الهزيمة التي كانت خارجية المصدر بهزيمة داخلية المصدر تضاعف حجم خساراته وتعزز النظرة التشاؤمية للواقع التي تغلق كل منافذ الفرص وتطمسها بدلا من محاولة النهوض والتحدي فالشخص هنا لايرى سبيلا للفعل أو التدبير أو طريقاً للخلاص بل يجد نفسه بين مطرقة تبخيس الذات من جهه وسندان انسداد آفاق الواقع المُعاش من جهة أخرى ويظل أسيراً لذلك القيد المزدوج .
من المهم أن ندرك أن التفكير السلبي والتشاؤمي معدٍ انفعاليا أكثر من التفكير الإيجابي لذلك عندما يشرع أحدهم بكشف سلبيات حالة أو حدث معين تتكون جوقة من تداعيات الأفكار السلبية والإدانه والتذمر والشكوى فتطمس الإيجابيات الفعلية الواضحة
ناهيك عن تلك الضمنية التي يتوجب الإستبصار بها والبحث عنها وإبرازها ،فتكون النتيجة عطالة في التعامل مع الواقع
فيستمر على ماهو عليه .
فما عليك في مثل هذه الأحداث ابتداء أن تتجنب تلك الأوساط التي تتبني نظرة سوداوية للواقع وأن تبحث عن بيئة داعمة وأن تتمسك بفكر ايجابي ثاقب ولا أقصد هنا الإنفصال الواقع والتوجه اليه بنظرة وردية ولكن أعني إحلال أفكار واقعية مكان تلك السلبية، ومحاكمة تلك الافكار والافتراضات السلبية وقياس مدى تأثيرها ومحاولة استخراج كل الايجابيات المحتملة في الموقف السلبي ، بذلك يمكن تغير الذهنية التي تواجه بها الواقع وبذلك تغير سلوكك الذاتي وموقفك من الحدث وقد تجد بذوراً للنمو والتطور مختبأة في قلب تلك الشدائد .
تلك الطريقة تمثل نواة الإقتدار في التعامل الفاعل مع الأحداث وقضايا الحياة فهي توجه يستخرج الإمكانات الظاهرة والكامنة و يعبأ الطاقات نحو العمل ، كما أنه السبيل الأوحد للحفاظ على المعنويات وحسن الحال النفسي.
” وتضيق دنيانا فنحسب أننا سنموت بأساً أو نموت
نحيبا
وإذا بلطف الله يهطل فجأة يربي من اليبس الفتات
قلوبا
قل للذي ملأ التشاؤم قلبه ومضى يضيق حولنا
الآفاقا
سر السعادة حسن ظنك بالذي خلق الحياة وقسم
الأرزاقا “”