المعرفة لها جذور عميقة في التجربة الإنسانية، لكن غالبية الناس لا يدركون الفارق بين امتلاك المعارف التي تشير الى أخذ كمية معينة من المعلومات المتاحة والاحتفاظ بها كملكية وبين المعرفة بمعناها الوظيفي كجزء من عملية التفكير المثمر.
ساهم نظام التعليم في العالم المعاصر في تدهور المعرفة وفقدانها لقيمتها فالمدارس في الحقيقة تحولت الى مصانع تنتج المعلومات المعلبة، على الرغم من مما تدعيه عادة من جعل التلاميذ يتصلون بأرقى ماوصل اليه العقل البشري، فما أحوجنا اليوم الى نقد شفاف من أهل الاختصاص للكشف عن عيوب تلك الأنظمة التعليمية وسقطاتها.
وعلى افتراض إن أهم وسائل الوصول للمعرفة تتمثل في التلقي المباشر من المعلم والتحاور والقراءة، أود أن أناقش معكم بعض الاستراتيجيات التي أرجو أن تعينكم على تلقى حقيقي للمعرفة وتطبيقها وإنزالها على أرض الواقع.
في المدارس ودور العلم والجامعات يستمع الطلاب الى المعلم ويفهمون البناء المنطقي الكلمات وقد يسجلونها على مذاكراتهم حرفياً من أجل أن يحفظونها في ذاكرتهم ويجتازون الإمتحان بنجاح، لكن كل ذلك لا يصبح جزءاً من النظام الفكري للطالب فلا يثريه ولا يوسع آفاقه، فتلك الكلمات تصبح تجمعات فكرية جامدة ونظريات تختزل كما هي ويظل الطالب ومحتوى مادته الدراسية أغراب عن بعضهما، ولأن الطالب لا يملك سوى التشبث بما تعلمه وتثبيته جيداً في ذاكرته لذلك يشعر بالاضطراب تجاه أي أفكار جديدة تثار حول الموضوع لأنها تثير التساؤلات حول الكم الثابت من المعلومات التي تلقاها، وفي الحقيقة تلك الطريقة في التعاطي مع العلوم والمعارف مثيرة للفزع لأن الافكار لا بد أن تكون في حالة نمو وتغير مستمر.
الطالب الذي تندرج علاقته بالعالم في إطار المعرفة والتوق للتعلم لا يكون مستمعاً سلبياً مطلقاً، بل إن كل فكرة تطرح تفتح في ذهنه أسئلة وآفاقاً جديدة، فاستماعه عملية حية، والحياة تدب فيه تلقائياً تجاوباً مع ما يطرح من أفكار، فعقله بعد المحاضرة تطور وتغير عما كان قبلها، مع ملاحظة إن تلك الطريقة المثمرة للتعلم لا يعول إليها إلا إذا كان ما يقدم مادة فكرية منبهة للعقل، أما في حالة الكلام الأجوف فقد يفضل الطالب الانصراف الى عملياته الذهنية الخاصة.
إذا انتقلنا الى الحوار، فالشخص الذي يسعي الى المعرفة يجب يدرك أن أفكاره لا تمثله ويفرق بين كينونته وفكره ، الشخص المنغلق هو من يرى إن رأيه جزءاً من ممتلكاته والتخلي عنه يعنى أفكاره، الشخص المنفتح هو من يقبل على الحوار دون محاولة النفخ في صورة ذاته بأي شكل، فهو يتجاوب مع الآخر بشكل عفوي ومثمر فيتناسى مكانته ومايملك من معارف ومراكز حتى لا تقف ذاته في طريقه الى المعرفة، ففي حين يستند الأشخاص على مايملكونه من معارف سابقة يستند هو على كون وجوده الآن حقيقة كائنة وحية، تلك العملية التي تسمى “تجاوز مركزية الذات” تحول الحوار من عملية تبادل للسلع من معلومات ومعارف ومراكز الى حوار طليق لا يهم فيه إن كنت على خطأ أو صواب، منتصرا أو مهزوماً، فالعامل الحاسم فيه تطارح الأفكار وتنقيحها والخروج من الجلسة وأنت تدرك أكثر.
أخيراً إذا تطرقنا الى القراءة كطريق للمعرفة فكل ما سبق طرحه في الحوار ينطبق على القراءة التي هي حوار بين المؤلف والقارئ، يجب أن تتيح تجاوباً مثمراً بينهما وإلا تحولت إلى صفحات يبتلعها القارئ كما يبتلع مناظر تمر على التلفاز أو حتى شرائح من البطاطا أثناء مشاهدته لتلك المناظر.
من أعظم التشوهات التي أنتجها النظام التعليم هي اعتقاد الطلاب إن قراءة الكتاب تعني حفظ أفكار المؤلف وترديدها فحتى لو افترضنا أنك تقرأ لأعظم فلاسفة التاريخ فيجب أن يذهب فكرك الى ماوراء الكلام، أن تفتح الكلمات في وعيك آفاقاً وأسئلة تجتهد لإيجاد أجوبة لها، أن تكون على وعي بالتناقضات التي وقع فيها الكاتب وتنتبه الى القضايا التي تجنب الخوض فيها وتسأل نفسك لماذا كانت في إطار المسكوت عنه.
المعرفة بمفهومها العميق ليست وسيلة لإثبات العقل لذاته، بل هي طريقة لقيادة العمليات الادراكية يمكن فهمها بالتعمق في تأملات عظماء المفكرين الذين يرون أن المعرفة تبدأ بمعرفة مدى خديعة مداركنا وحواسنا والصورة التي نمتلكها عن الحقائق المادية وإن كثيراً مما تعتقد إنه حقائق واضحة لا تحتاج الى إثبات ماهي الا أوهام صنعتها إيحاءات البيئة التي نعيش فيها.
لذلك فإن المعرفة تبدأ بتبديد الوهم ورؤية الحقيقة عارية ولا يتحقق ذلك إلا بالنفاذ تحت السطح والسعي الإيجابي وممارسة التفكير النقدي للاقتراب من الحقيقة دائماً، وهدفها الوصول الى أرضية تشعر الإنسان بالأمان وتقوده الى الخلاص.