مستقبل كازاخستان النووي… بين الاستفتاء والتوجهات الاستراتيجية

واشنطن – (د ب أ):

يعتمد مستقبل الطاقة النووية في كازاخستان على قرارات استراتيجية تتجاوز الاستفتاءات الشعبية. ورغم إمكانياتها الكبيرة، يتطلب نجاحها في هذا المجال بناء قدرات محلية، وتنويع مصادر التمويل، ونقل التكنولوجيا.

وقال الباحثان جينيت تشاريفا ويانليانج بان في تقرير نشرته مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي إن أكثر من 70% من الكازاخستانيين صوتوا لصالح بناء محطة جديدة للطاقة النووية في استفتاء تم إجراؤه تحت مراقبة مشددة في 6 تشرين الأول/أكتوبر. ويُسلط قرار الحكومة بتقديم هذه القضية للتصويت الشعبي الضوء على طابعها المثير للجدل، حيث لم يتم إجراء سوى ثلاثة استفتاءات في تاريخ كازاخستان ما بعد الاتحاد السوفيتي.

ورغم كونها أكبر منتج عالمي لليورانيوم الطبيعي (فهي مسؤولة عن 43% من الإنتاج العالمي في عام 2022)، فإن كازاخستان تتحفظ تقليديا على الطاقة النووية.

ويعود هذا التردد إلى حد كبير إلى تاريخ البلاد كساحة للاختبارات النووية للاتحاد السوفيتي، إذ عانت منطقة سيميبالاتينسك في كازاخستان من أكثر من 450 اختبارا نوويا تسبب في مشاكل صحية لا حصر لها للسكان المحليين وأثر بشكل كبير على التنوع البيئي.

وحتى اليوم، لا يزال البعض يفتقر إلى الثقة في قدرة الحكومة على ضمان السلامة النووية. وتستمر المخاوف بشأن الفساد المحتمل والفشل التنظيمي والديون الخارجية المفرطة والاعتماد على دول أخرى في البنية التحتية الحيوية.
وبالرغم من ذلك، فإن الرأي العام في أفضل الأحوال هامشي بالنسبة لاتخاذ القرارات الفعلية في أستانا. وبالنسبة لكازاخستان، فإن السؤال الحقيقي عندما يتعلق الأمر بالطاقة النووية كان دائما “كيف” وليس “ما إذا”.

وفي الواقع، منذ عام 1997، عندما اقترح وزير الطاقة فلاديمير شولنيك بناء محطة للطاقة النووية، قامت استراتيجيات الطاقة الوطنية المتعاقبة بتشكيل هذا الطموح. وكانت العقبات الشائعة مثل نقص التمويل والشروط غير المواتية لنقل الملكية الفكرية أكثر أهمية بكثير من المعارضة العامة في عرقلة مبادرات الحكومة السابقة لتطوير الطاقة النووية.

والتحدي الحقيقي هو موازنة الاعتبارات التقنية والمصالح التجارية مع الجغرافيا السياسية الدقيقة للإمدادات، خاصة عند الاختيار بين موردي المفاعلات في روسيا والصين وفرنسا وكوريا الجنوبية. وستحتاج أستانا أيضا إلى التفاوض على شروط مواتية للتمويل والتوطين.

ومن جهة، يقول الباحثان إن هناك أسباب تدعو للقلق لدى المعارضة الكازاخستانية من أن روسيا قد تفرض صفقة نووية مدنية تُدخل قطاع الطاقة في كازاخستان في حالة من الاعتماد المالي والتكنولوجي والإمدادات طويلة الأجل. فلدى روسيا تاريخ طويل في ممارسة نفوذها الغامض للحفاظ على مصالحها في قطاع الطاقة النووية في كازاخستان، كما يظهر من اعتقال مختار دجكشيف في عام 2009، الذي كان حينها رئيس شركة “كازاتومبروم” الحكومية النووية الكازاخستانية.
كما أن شركة الطاقة النووية الروسية الحكومية “روساتوم”، التي كانت شريك كازاخستان الافتراضي في المشاريع النووية، لا تزال تسيطر على حصة كبيرة من احتياطيات اليورانيوم في كازاخستان.

ومع ذلك، لا يجب تصوير تطوير الطاقة النووية في كازاخستان على أنه فخ مالي وجيوسياسي روسي بحت. وفي الواقع، تمتلك كازاخستان اليوم مزيدا من النفوذ أكثر من أي وقت مضى في المفاوضات. فبعض الدول التي تم إدراجها ضمن قائمة المشاركين تعتمد على كازاخستان للحصول على اليورانيوم الخاص بها. وبفضل نقل التكنولوجيا الفرنسية والاستثمار الصيني، أصبحت كازاخستان الآن قادرة على إنتاج تجميعات الوقود للمفاعلات المائية المضغوطة من كلا التصميمين الفرنسي والصيني، مما يمنع فعليا (في حالة اختيار التكنولوجيا الفرنسية أو الصينية) نوع الضعف في الإمدادات الذي واجهه مشغلو المفاعلات المصممة روسيا من نوع “ففير” في السنوات الأخيرة.

أما فيما يتعلق بالتمويل، فإن صندوق الثروة السيادية في كازاخستان يتمتع بموارد كافية لتوفير 30% من استثمارات مشروع نووي، كما أن القروض الأجنبية أصبحت متاحة بشكل متزايد. وقد تعهدت المؤسسات المالية الرائدة في العالم مؤخرا بدعم توسيع نطاق الطاقة النووية على مستوى العالم. وحتى الحكومات الغربية عادت لتبني وجهة نظر استراتيجية حول تصدير الطاقة النووية المدنية، حيث تقدم مليارات الدولارات كقروض لجعل الصفقات مع مورديها الوطنيين أكثر جاذبية.

وبينما قد لا تمتلك كازاخستان (حتى الآن) القدرة الصناعية لتنفيذ توطين كامل، إلا أنها تتمتع بقوة تفاوضية كافية للمطالبة بشروط مواتية فيما يتعلق بنقل التكنولوجيا، وخاصة في مجال تصنيع الوقود، وضمان تنوع مصادر التمويل والإمداد.
والسؤال الأكثر أهمية على المدى الطويل هو ما إذا كانت كازاخستان ستتمتع بالقدرة والعزيمة على دمج نفسها في سلسلة التوريد العالمية للطاقة النووية المدنية، حيث قد يشكل مشروع الطاقة النووية المدنية خطوة أولى في هذا الاتجاه. مثل هذا الطموح ليس بعيد المنال. فكازاخستان تمتلك مجمعا بحثيا نوويا كفؤا، يشارك بالفعل في أبحاث وتطوير الطاقة النووية من خلال عقود مع جهات أجنبية. كما سعت إلى الشراكة مع روسيا لتطوير وبناء وتسويق المفاعلات الصغيرة المعيارية، لكن المشروع المشترك انتهى بسبب خلافات حول الملكية الفكرية، وليس بسبب نقص الكفاءة في كازاخستان.

وفي النهاية، سيعتمد نجاح كازاخستان في التقدم في سلسلة التوريد النووية العالمية على اتخاذ قرارات استراتيجية، وليس على الرأي العام داخل البلاد. وإنشاء محطة نووية جديدة سيخفف من عجز الطاقة في كازاخستان، ولكنه لن يكون حلا دائما. ويخلص الباحثان إلى أن التوطين الفعلي وبناء القدرات المحلية هما السبيل الوحيد لتعزيز مستقبل يعتمد على الطاقة النووية.