لعل المدهش أن نراقب تصرفات الناس تحت الضغط عندما يتراجع الوعي بالذات والمحيط ، فقد تلاحظ حينها أن الناس يتخبطون ويعانون حالة أشبه بالنكوص ويتصرفون بطريقة صبيانية ، وسبب ذلك يرجع الى توليفة كيميائية في الدماغ ، حيث تعتاد أدمغتنا على مزيج كيمائي محدد يشكل هرمون الإجهاد ” الكورتيزول ” أبرز مكوناته .
تتشكل عادة الدماغ تلك في الست سنوات الأولى من العمر وترتحل معنا تلك الإعدادات كلما تقدمنا نحو النضوج لتشكل نكهة مشاعرنا ونظرتنا لذواتنا والطريقة التي نستجيب بها للأحداث ونفسر بها الوجود، ولعل ذلك السبب الرئيسي لما يصدر عنا من استجابات طفولية .
على الرغم من الترويج المستمر لفكرة أن الوراثة هي العامل الأهم في التركيب الكيميائي للدماغ، إلا أن الحقيقة تشير إلى أن دور الموروثات يأتي في المرتبة الثانية عندما نتحدث عن البنية العصبية للدماغ .
حيث أن البيئة التي يوفرها الوالدان ومقدمو الرعاية تلعب دوراً محورياً في هذا السياق.
ومن أبرز انعكاسات البيئة هو مستوى تقدير الذات لدى الفرد، حيث أظهرت العديد من الدراسات النفسية أن تقدير الذات لدى الأشخاص يكون قريبًا بشكل كبير من تقدير الذات لدى والديهم، وخاصة الوالد الأكثر قرباً للطفل، وكأنها حالة من “العدوى”.
ورغم وجود استثناءات ناتجة عن قفزات في مستوى الوعي الذاتي التي قد يحققها الفرد بعد البلوغ، فإنه من النادر أن نجد شخصاً يتمتع بتقدير عالٍ لذاته في حين أن والديه يعانيان من تدني قيمة الذات.
لكن قبل أن أنطلق بعيدًا في هذا الطرح ، يجدر بي أن أوضح أن القصد ليس إلقاء اللوم على الوالدين في التحديات التي نواجهها في تقديرنا لذواتنا. فمعظم الآباء يسعون جاهدين لتقديم الأفضل لأطفالهم .
كما أن الهدف ليس التنصل من مسؤوليتنا تجاه مشاعرنا ورؤيتنا لذواتنا، أو الإنغماس في وعي الضحية. بل هي دعوة للإستبصار والتأمل الذاتي، للخروج من الأنماط السلبية التي اكتسبناها في طفولتنا، والتي أصبحت تشكل واقعنا وتجذب أحداثاً متوافقة معها
وبات من الضروري التحرر منها، لأنها لم ولن تخدمنا .
في مستويات منخفضة من تقدير الذات يصعب إدارك قيمة التقدير المرتفع نظراً لغياب المرجعية فذلك كمحاولة تخيل لون لا وجود له ، وسيتسبب تدني تقديرك لذاتك في بقاء عقلك أسيراً لتفسير لتصرفات الناس ونواياهم بطريقة تدعم بقاء مستوى المواد الكيمائية في دماغك في مستوى اعتدت عليه من الطفولة فأصبح دماغك يعتقد أنه المستوى الطبيعي.
وذلك هو السبب في أن كثير من الناس يتعرضون لنفس الإهانات وإن ذهبوا الى أقاصي الأرض ، فأصحاب التقدير المتدني للذات ينجذبون إلى من العلاقات السامة و لا يندر أن يترك أحدهم شخصا يساعدهم على العيش بطريقة أفضل ويقع في براثن شخص يزرع في نفسه القلق والتوتر والإكتئاب التي تكيف دماغه على توقعها .
يقوم جميع الأطفال بمراقبة مستوى تقدير الوالدين لذواتهم وطريقة تصرفهم تجاه مشاعرهم ، ولما كان الكثير من الآباء والأمهات يفتقرون إلى الأساليب التربوية وقد يعاملون أطفالهم بطريقة تعكس تجاربهم الإنفعالية الخاصه وماتحمله من الإحباط الوجودي أو الغيظ والغضب وعندها لن يكون من الغريب أن ينمو الطفل ولديه احترام ضعيف لذاته.
كما يتأثر الأطفال بأقوال وأفعال الكبار، التي تنقل إليهم شعوراً بعدم الكفاءة. فعندما يستخدم الأهل عبارات غير ملائمة لتصحيح السلوك، مثل “أنت كاذب”، لا يقتصر الأمر على تأنيب قاسٍ فحسب، بل يُحدث تغييراً في هوية الطفل. فيقبل الطفل هذه الهوية الجديدة ببراءة، ويتبنى سلوكاً يتماشى معها، في عملية تماهي نفسي . وهنا يكمن الفرق الجوهري بين أن تكذب مرة وبين أن تصبح كاذباً.
لاشك أننا كأباء وامهات نسعى دوما لدفع أطفالنا للنمو واستخدام طاقتهم الكامنة لكن تحقيق ذلك لن يكون بالاتقاد أو المقارنة فمن الضروري أن تعلم أن الانتقاد يبقى عالقا في أذهان الاطفال لفترة طويلة ويصبح جزء من شبكات الدماغ ، فمهما كان انتقادك بحسن نية فإن دماغ طفلك يترجمه ” انت لست جيداً بما فيه الكفاية” وبالتكرار يترسخ في اللاوعي عند الطفل أنه فعلاً ليس كافياً.