الموضوعية ميزان العلاقات
بقلم / د. ولاء قاسم
إن الحب في جوهره يمثل تجرداً من النزعات النرجسية التي تُعتم إدراكنا للواقع وتدفعنا إلى رؤية العالم من خلال عدسة خاصة ،فالنرجسية تجعل الفرد يعتقد أن كل ما يحيط به من ظواهر ليس لها دلالة ذاتية، بل تعتبر مجرد أحداث إما تُعزز وجوده وشعوره بالذات أو تشكل تهديداً له.
في هذا السياق ، تبرز الموضوعية كعصب للحب ، وهي تُعد بمثابة القطب المضاد للنرجسية، حيث تعكس الملكة التي تمكنك من فصل الصور والظواهر عن الرغبات والمخاوف الشخصية.
إن التفكير الموضوعي نواة العقل، و النظرة العاطفية للأحداث مجرد انعكاس لما تخفيه الذات . لا يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة من الوعي إلا عندما يتجاوز أحلام المعرفة والسيطرة المطلقة، ويتخلص من النظرة الطفولية للعالم التي تكتنفها التحيزات والانحيازات الفكرية. في هذا الإطار، تصبح العلاقات على اختلاف اشكالها ودرجاتها تجربة أكثر عمقاً وجاذبية .
إن العجز عن ممارسة الموضوعية يُعتبر أساس الأمراض الذُهانية، حيث يظل الواقع الذي يدركه المجنون محصورًا في عالمه الداخلي، مشكلاً من رغباته ومخاوفه. كما يمكننا نحن الذين نعتبر أنفسنا “عقلاء”، أن نعي غياب الموضوعية في أحلامنا. فالعروض المسرحية التي نراها أثناء النوم ليست سوى تجسيد لرغباتنا و مخاوفنا ، وأحيانًا بعض حكمتنا وبصائرنا تتجسد في شكل في صورة حلم مُدرك .
تلك اللحظات من الحلم تُسهم في خلق تجربة تُشبه إلى حد كبير الواقع الذي نعيشه في يقظتنا، مما يفتح أمامنا آفاقًا جديدة لفهم ذواتنا. إذ تتداخل الأحلام مع حالة الوعي، مُظهرةً لنا كيف يمكن للعقل أن يصنع عوالمه الخاصة، مُعبراً عن صراعات داخلية وتطلعات مكنونة.
ولعل المثير في الأمر أننا جميعا قد نكون على حافة الجنون أو حالمين بشكل أو بآخر لأننا نعجز أحياناً عن تكوين نظرة موضوعية متماسكة للعالم دون حدوث تشويه نرجسي للحقيقة لكن درجة ذلك التشويه تتنوع وتختلف !!
التشوهات التي تحدثها النرجسية شائعة في العلاقات ، فكم من زوجة تعتقد أن زوجها متبلد أو غبي عاطفيا لأنه ليس كصورة الفارس المتألق الذي رسمته في خيالها في فترات الصبا؟! وكم من زوج يتصور أن زوجته متسلطة لأنه يفسر ان أي مطلب هو قيد لحريته؟! ، وكم من والد يعامل أبنائه على أنهم أدوات تمنحه الفخر الشخصي دون اهتمام بتجربة ذلك الابن ومشاعره وأحلامه الخاصة ؟!
نقص الموضوعية يؤثر على جميع مستويات العلاقات سواء الاجتماعية أو مهنية وحتى بين الجماعات والأمم فكل من نقوم بتصنيفه عدوا أو عقبةً أمام مصالحنا يصبح في نظرنا شريراً مهما كان يحمل من الخير والنبل حتى أعماله التي يتفق على خيريتها فهي علامة شيطانية الغرض منها خداعنا وخداع العالم .
هذا الواقع يدفعني للقول أن الموضوعية تعتبر استثناءً في عالم يسوده التشويه النرجسي الذي يصبح القاعدة ، الفارق الوحيد يكمن فقط في اختلاف درجة التشوية ، في هذا الإطار، يتضح كيف أن القدرة على ممارسة الموضوعية ليست مجرد فضيلة ، بل هي جسرٌ نحو الفهم العميق لذواتنا وللواقع الذي نعيش فيه.
إذا كنت تسعى لقطف ثمار الحب الناضجة، فعليك أن تتحرى الموضوعية وتُحرر ذاتك من أسر النرجسية، فإن إدراك الفارق بين تصورك الشخصي عن الآخرين وسلوكهم، وبين الصورة المشوهة التي تُشكلها نرجسيتك، هو خطوة حيوية. يجب أن تنظر إلى واقع الشخص كما هو، بعيداً عن اهتماماتك ورغباتك ومخاوفك.
لكن القدرة على تحقيق الموضوعية وتطبيقها في الحب ليست سوى نصف الطريق. فبهذه الموضوعية، ستتمكن من الحفاظ على علاقتك بالمحبوب. أما النصف الآخر من الطريق، فيتطلب منك أن تُنزل موضوعيتك إلى أرض الواقع، وتطبقها مع كل من تتفاعل معهم، ومع كل حدث يمر بك. بهذه الطريقة، ستحافظ على علاقتك مع الكون كله، بما يحويه من أناس وأحداث، مما يمنحك القدرة على التفاعل بعمق مع الحياة، ويُغني تجربتك الإنسانية بأبعاد جديدة .