فخ الاعتمادية ..عندما يتحول الحب قيداً
بقلم / د. ولاء قاسم
كثيراً ما نجد أشخاصاً ينخرطون في سلوكيات قهرية ويتورطون في علاقات إدمانية للسيطرة على المشاعر الداخلية ولتأمين خبرات عاطفية ( مشاعر ) تسكن الشعور العميق بالخواء الداخلي والجوع للحب ،لكن مع الأسف غالباً ما تفشل تلك المحاولات في تحقيق الإشباع حيث تُجمع القواعد النفسية على أن الاستقرار النفسي ينبع من الداخل ، لكن هؤلاء الأشخاص الاعتمادين تعودوا منذ الطفولة المبكرة على الاتكاء على الآخرين عاطفياً كنبات متسلق لن يستطيع العيش أو الصمود وحده دون الالتصاق بشجرة قوية وكبيرة.
تتجلى الاعتمادية كسلوك غير واعٍ، حيث يدخل الشخص إلى العلاقات معتقداً أنها ستكون مثالية، لكنه سرعان ما يرتطم بحائط صخري بعد سلسلة من العلاقات الفاشلة . وعندما يبدأ في إدراك وجود خلل في سلوكه، تمثل هذه الومضة من الوعي خطوة أولى نحو العلاج. لذا، أقدم هذا الطرح كدعوة للاستبصار وفهم الديناميكيات التي تحكم العلاقات الاعتمادية وما تخلفه من أزمات على المستوى العلائقي بين الأفراد.
عند سماع وصف الاعتمادية، قد يتبادر إلى أذهاننا صورة شخص ضعيف يتسول الحب ويتنازل عن أغلى ما يملك خوفاً من الرفض أو الهجر هذه هي الصورة الكلاسيكية للشخص “الاعتمادي التقليدي” .
لكن هناك نوع آخر يعرف بـ “الاعتمادي العكسي”، الذي يظهر للناس مظهر القوة والاستقرار، متظاهراً بعدم الاحتياج. يسعى هذا الشخص لجذب الاعتماديين التقليديين إلى حياته ويخفي احتياجه العميق بأساليب متعددة، ومع ذلك، يبقى هذا الاحتياج صارخاً، يتجلى في سلوكيات عنيفة تجاه الآخرين كالهجوم الشخصي أو النقد ، أو بالمقابل تجنبهم والتظاهر بعدم الاكتراث بهم .
تفتقر جميع العلاقات الاعتمادية إلى الحدود الصحية، إذ يعتمد الشخص الاعتمادي على الآخر ليمنحه سبباَ وجوده، مما يدفعه للتشبث به وللاقتراب أكثر من اللازم ، هذا الالتصاق يجر معه مشكلات عديدة، وحين يشعر بالتهديد يتفاعل بردود فعل مبالغ فيها، فيبتعد ويقيم أسوار عالية حول نفسه، يفقد الثقة، لذا فإن معضلته الأساسية تكمن في ضبط المسافة بينه وبين الآخرين.
الهدف المشترك لدى كل الاعتمادين هو السيطرة على الآخرين لأنهم يعتبرونها السبيل الوحيد لضمان بقاء الحب ،وقد يفرضون تلك السيطرة بطريقة واضحة بالقوة أو بطريقة خبيثة وغير مباشرة عن طريق المناورة بالضعف، وذلك تعبير جلي عن عدم السواء لأن الشخص السوي يشعر بالأمان مع ذاته ولا يميل للسيطرة في العلاقات لأن الحب الحقيقي لا يمكن أن ينمو مكبلاً بالقيود والسلاسل.
خلصت العديد من الدراسات إلى أن العلاقات الاعتمادية تتشارك في سمات معينة . من أبرز هذه السمات أن العلاقة الاعتمادية تتسم بالإدمان، حيث يصعب التحرر منها رغم ما قد يتخللها من إساءات وإهانات. إن الجوع العميق للحب والعاطفة يدفع الشخص الاعتمادي إلى التمسك بأي اهتمام تقدمه العلاقة، حتى وإن كان مزيفاً أو مكلفاً .
هذه العلاقات الإدمانية كأي سلوك قهري آخر، تسيطر على حياة الفرد وتجعله يتخلى عن كل ما هو مهم في سبيلها. هي كخلايا سرطانية تنمو على حساب الأنسجة المحيطة، تستحوذ على مساحة متزايدة من حياة الشخص، مما يؤثر سلباً على علاقاته وأنشطته الأخرى. وحتى إذا تمكن الشخص من الفكاك منها، سرعان ما يجد نفسه يكرر نفس نمط العلاقة مع شخص آخر.
تتميز تلك العلاقة بالغيرة القاتلة وحب التملك لأن الاعتمادي شخص يفتقر إلى الثقة بنفسه وفي الآخر ويشعر بالتهديد الدائم ، كما أنه يعتمد على الآخر في تحقيق استقراره النفسي ويتعامل معه كجزء من جسده فهل من المنطقي أن يعطي جزء من جسده الحق في اختيارات حره ؟ !
تتأرجح العلاقة الاعتمادية بين الالتصاق المفرط والرومانسية الحالمة وبين الصراع العنيف والعنف الدموي ، وذلك لأن الاعتماديون يدخلون العلاقة بدافع الأخذ وليس برغبة متوازنة في الأخذ والعطاء ، وحتى عندما يمارس عطاءه المتكلف لا يكون عطاء ًأصيلاً بل نابعاً من رغبة في السيطرة على الآخر .
على النقيض، في العلاقات الصحية، يمكن للشخص الاتصال والانفصال بحرية، محافظاً على حدوده، بينما يستمر في الشعور بالقيمة واستقرار توازنه النفسي. هذه الديناميكية تمنحه القوة والقدرة على العطاء المتفاني دون خوف من الفقد.