رحلة المحاسبة الذاتية
بقلم / د. ولاء قاسم
ثقافة اللوم التي تميز مجتمعاتنا الشرقية والتربية التقليدية القائمة على النقد وغياب التحفيز وربما المقارنات وتصدير النقص والتحقير، سمحت لكيان داخلي غريب أن ينمو ويتمدد في داخلنا كإذاعة تم ضبط ترددها لتعيد بث أشرطة اللوم والإدانة بلا توقف . يُعرف ذلك الكيان ب ” الناقد الداخلي ” .
وخلافا لما يعتقده الكثيرون فإن الناقد الداخلي لايمثل الضمير والقانون الأخلاقي الذي أودعه الله تعالى في نفوسنا . فالضمير شعور فطري يجعلك تميز الخطأ عن الصواب بينما الناقد الداخلي يركز على الخطأ دون الصواب ويبدأ باللوم والانتقاد على حساب الرؤية الموضوعية التي تمتاز بتوازن واقعي في تقييم السلبيات والإيجابيات .
إن الناقد الداخلي ليس سوى جسم غريب وكيان متطفل دخل وعينا ،كصوت والد صارم أو معلم ناقد تم استبطانه حتى ظننا أنه صوت ضميرنا ، لكنه دخل ببطء منذ الطفولة ،وتحكر في زواية عتيقة بداخلنا مما جعلنا نَغفل عن طبيعته الدخيلة علينا وظنناه جزء من كياننا الأخلاقي.
يتلاعب الناقد الداخلي بنا من خلال جملة من الشعارات، أبرزها تلك المقولة التي تدعونا إلى انتقاد ذواتنا قبل أن يتجرأ الآخرون على ذلك. ولكن ذلك توقع خيالي يتكشف مع الوقت ليظهر لنا أن الناقد الحقيقي الوحيد الذي نواجهه هو ذلك الصوت الذي يقبع داخلنا.
هذا الناقد يدعونا بلا هوادة إلى عدم الرضا إلا بالكمال، رغم أن السعي نحو الكمال ليس سوى آفة تؤدي إلى الإحباط وكسرة النفس. وغالباً ما يسعى ذلك الناقد إلى خلق مقارنات مجحفة بيننا وبين آخرين قد يتفوقون علينا في جانب من جوانب الحياة، بينما نتفوق نحن عليهم في جوانب أخرى.
ما يثير الاستغراب هو أن هذا الناقد يختار دائماً أسوأ ما فينا ليقارنة بأفضل ما عند الآخرين، وهل من المنطق أن نقارن أنفسنا بإنسان آخر يختلف عنا في الإمكانيات والظروف، دون أي اعتبار للفروق الفردية التي تميز كل إنسان عن الآخر؟ !
ولمّا كان لكل فعل رد فعل، مساوٍ في المقدار ومعاكس في الاتجاه فإن هيمنة الناقد الداخلي تخلق في أعماقنا ما يسميه المختصون “بالذات الدفاعية”. هَمُّ هذه الذات الوحيد هو الدفاع عن نفسها، وتبرير أخطائها دون أي موضوعية. فبينما يهاجم الناقد بلا سبب، تتصدى الذات الدفاعية بلا مبرر، فتُنكر الأخطاء ولا تعترف بها، وتفسر سلوكيات الآخرين على أنها كراهية أو غيرة، أو حتى رغبةً في التدمير.
ما يميز هذه الذات هو قدرتها على التفنن في انتقاد الآخرين، وتحليل سلوكهم، ومهاجمتهم، وتتبع عوراتهم، وتثبيت عثراتهم، وكل ذلك من أجل تبرير نفسها وإبراز تفوقها.
هذا الفهم العميق قد يجعلنا أكثر تعاطفًا مع الأشخاص الذين يرفضون النقد، لكنهم في المقابل يميلون إلى الهجوم وانتقاد الآخرين. فغالب الظن أنهم يرزحون تحت وطأة ناقد ذاتي يلهب ظهورهم بأفكار مؤلمة، مما يدفعهم للدفاع عن أنفسهم بشكل مبالغ فيه أو يدفعهم للهجوم على الآخرين كوسيلة لتبرير أنفسهم. إنهم يتنقلون بين الألم والدفاع، محاولين البقاء في دائرة الأمان التي صنعوها لحماية ذواتهم ، لكنها تظل قيدًا يؤرق نفوسهم.
إذا كنت من أولئك الذين يعانون من سطوة الناقد الداخلي، سواء تفوق هو أو انتصرت عليه الذات الدفاعية، فإن الخطوة الأولى نحو التحرر تكمن في تنمية ذاتك المنطقية، تلك التي ترى الصورة أقرب إلى الحقيقة. إن الخلل الأساسي يكمن في أننا استخدمنا الناقد الداخلي غير المنطقي والذات الدفاعية غير الموضوعية أكثر من اعتمادنا على الذات المنطقية، مما أدى إلى تضخمهما على حساب الأخيرة. وهكذا، أصبحنا نعيش في صراع دائم، نتأرجح بين انتقاد أنفسنا بصورة مبالغ فيها أو الدفاع عنها بشكل مفرط، لتضيع الذات المنطقية وسط هذه المعركة الداخلية.
حاول أن تواجه الناقد الداخلي بالمراقبة والرصد، و لا تصطف بجانبه في ساحة العقل. تصدى لكل فكرة يوجهها إليك، واطلب منه دليلاً منطقياً يدعم ادعاءاته. استمتع بحياتك، واغفر لنفسك إذا أخطأت، فكلنا بشر .
كن نسخة أفضل من نفسك في كل مرة، وذكر نفسك بالتأثيرات السلبية التي تتركها رسائل نقدك الذاتي، من قلق وخزي وشعور بالذنب.
تذكر أن جميعنا بحاجة إلى محاسبة أنفسنا بعدل ورحمة، بعيدًا عن براثن اللوم والعقاب. وتذكر أيضاً أننا جميعاً بحاجة لحماية ذواتنا ولكن من الضروري أن نختار طرقاً ناضجة لذلك ، فكن رفيقًا لطيفًا لذاتك خلال رحلة المحاسبة الذاتية وامنح نفسك الفرصة للنمو واحتفي بكل خطوة تخطوها باتجاه ذاتك .