بين الخُلوة والعِشرة
بقلم / د. ولاء قاسم
يتفق العديد من المختصين في الدراسات النفسية على أننا كبشر نخضع لحتمية تدفعنا لتكرار سلوكيات معينة بشكل قهري، يشكل مصيرنا . هذه السلوكيات تنبع من طباع متأصلة في أعماقنا، منقوشة في أذهاننا تدفعنا للتصرف بطرق محددة دون وعي أو تحكم منا .إن طبائعنا تتراكم كطبقات فوق بعضها، حيث تنبع أعمق هذه الطبقات من مورثاتنا التي تحددها الكيفية التي رُكبت بها أدمغتنا، مما يجعلنا ميالين إلى مزاجات بعينها واختيارات دون أخرى .
تُسهم الطبقة الوراثية في تشكيل ميول الأفراد؛ فبينما يميل البعض إلى حب العشرة، يفضل آخرون الخلوة. يُشير مصطلح “حب العشرة” (extroversion) إلى الرغبة في المخالطة والانغماس في الحياة الاجتماعية، وهو ما يوازي “الانبساط” في العربية. في الجهة المقابلة، نجد حب الخلوة (introversion) الذي يُترجم إلى “الانطواء”.
وبما أن هذين المصطلحين يحملان طابعًا تحيزيًا، فقد فضلت استخدام “حب العشرة” و”حب الخلوة” كبديل أكثر حيادية، بعيدًا عن تحميل الأشخاص سمات إيجابية أو سلبية، مهما اختلفت طباعهم.
الاسئلة الأهم التي تشغل بال محبي العشرة: “كيف يفكر الآخرون بي؟” و”كيف يرونني؟” و”ماذا يعتقدون عني؟” لذا، تجدهم يميلون إلى نفس تفضيلات الآخرين، حيث تحدد آراؤهم من خلال المجموعات التي ينتمون إليها. هم منفتحون على الأفكار والاقتراحات الجديدة، لكن هذا الانفتاح مرهون بمدى قبولها وشعبيتها في ثقافتهم، أو بتأكيدها من قبل سلطة تحظى بإحترامهم .
يتميز هؤلاء الأشخاص بقدرتهم على الاستمتاع برفقة الآخرين، حيث يتشاركون لحظات بديعة من الألفة. و هم لا يرتاحون للصخب والضجيج فقط ، بل إنهم يسعون إلى البحث عنهما احيانا ، وستجدهم دائمًا في حالة من التوق لإثارة انتباه الآخرين ولفت أنظارهم في كل مناسبة.
أما محبو الخلوة فيتمتعون بحساسية عالية، حيث ترهقهم الأنشطة الاجتماعية ، ويفضلون الاحتفاظ بطاقاتهم لقضاء الوقت بمفردهم أو مع شخص مقرب. على عكس محبي العشرة الذين تنجذب أنظارهم إلى الحقائق العامة، يركز هؤلاء على آرائهم الخاصة ومشاعرهم الشخصية، ويستمتعون بوضع نظريات واستخلاص أفكار فريدة تصنعها معاييرهم الداخلية. وهم لا يسعون للترويج لأفكارهم، بل يتركونها تتحدث عن نفسها من خلال سلوكياتهم.
يفضلون الحفاظ على خصوصية حياتهم، حيث يختارون أن يبقى جزء منها في الظل دون ان تطاله أعين الآخرين ويفضلون الاحتفاظ بأسرارهم لأنفسهم.و لا يشعرون بالراحة في التجمعات الكبيرة؛ فكلما زاد الحشد، زاد شعورهم بالانزعاج والضياع، مما يجعلهم يظهرون مرتبكين وقلقين في المناسبات العامة أكثر من معظم محبي العشرة.
يميل معظم الناس إلى أحد هذين الاتجاهين، مما يجعل كل فئة غير قادرة على فهم الأخرى. يرى محبو العشرة أن محبي الخلوة جافين ويفتقرون للمهارات الاجتماعية، بينما يعتبر المختلَون أن محبي العشرة سطحيين وسريعي التقلب.
ولما كان الانخراط في أي من هذين التوجهين يعود لأسباب وراثية فذلك يجعل كل طرف ينظر إلى الأمور من زاوية مختلفة تمامًا.لذا، إذا أدركت أنك تتعامل مع شخص ينتمي إلى الفريق الآخر، فمن الضروري إعادة تقييم طباعه وفهمها، وعدم فرض خياراتك عليه. ورغم أن محبي العشرة هم الأكثر عددًا في العالم وفقًا للدراسات، إلا أن كلا من المختلي والمعاشر يمكنهما أن يكمل كل منهما الآخر، ويعملا معًا بفعالية.
أخيرًا، مهما كان توجهك في الطباع، سأدعوك إلى التحلي بسلامة الطبع وما تحمله من مرونة وقدرة على التكيف. فالشخصية السليمة تشبه قطعة معدنية خالصة، قد تتمدد بفعل العوامل الخارجية، لكنها تظل محافظة على شكلها، ولا تنكسر أبدًا.
تنبع سلامة الطبع من الشعور بالأمان الشخصي والقيمة الذاتية، إذ إن من يحمل هذه الخصائص هو إنسان اصيل يستند على قاعدة صلبة من القيم تجعله آمنا داخليا ولا يشعر بالقلق على مكانته ، قادر على التفاعل مع الآخر و الانفتاح على الأفكار والأساليب الجديدة ، متقبل للتغير ومستفيد من التجارب لكنه لايسمح لأي ضغوط اجتماعية بأن تمس جوهره .