ثوب العرس الممزق
بقلم : صبحة بغورة
التوهج كان جزء أصيلاً في تكوينها فهي رائعة في الجمال ،ورائعة في الحديث، ورائعة في إقامة جسور التواصل مع الأشخاص والأشياء والأفكار، عندما تطل تضئ ابتسامتها محيطها مكتملاً ، ينتهي طول شعرها الأسود الناعم المسدول خلفها بضفيرة مختلطة بحمرة فتبدو أجمل من القمر ، تسرق الأنظار إذا برزت فيكون لجمالها الغلبة أمام كل الموجودات، فستانها المزهر ينسدل بتموجات ترسم رشاقة قوامها الفارع، تسحر كل من يلتقيها بنظرات عينيها المائلة للخضرة ، تبهج الجلسات العائلية مثل طيور السنونو ، وعندما تحل بأي مكان تشيع جوا من الألفة والسعادة فيراها من يحبونها كوجه القمر في تمام استدارته وبهائه .
كانت قمر قد أنهت لتوها دراستها الجامعية عنما تقدم لخطبتها شاب وسيم وغني، كان والدها سائقاً في مصنع والده، أبدت سكوت الرضا عندما باغتوها بطلب يدها ، رأت فيه الحبيب والفارس الذي سيطير بها على حصان أبيض نحو أعالي الروعة وحيث منتهى الجمال، بدا الأمر للغرباء عجيباً ، ولكن والدها استبشر به وفسره على أنه مفتاح الفرج، عاشت قمر حلم عرسها الوردي القريب ، احتوته روحها ، وغرسته في بستان حبها، وسقته بأغزر ما ذرفته عيونها من دموع الفرح ، كبر الحلم ونضجت الأمنيات وصارت شمساً ساطعة في سماء قمر، بدأت الاستعدادات للزواج تتسارع،وأهل قمر البسطاء مذهولين من حجم ونوعية وكمية الهدايا التي أحضرها العريس وأهله، وكانت المفاجأة عندما قدّر مهرها بعدة ملايين ، ثم تعهدوا بالتكفل بالتجهيز الكامل لجميع احتياجاتها ، آثرت قمر اعطاء مبلغ مهرها بالكامل إلى والدها ليجري بعض الترميمات على منزلهم القديم وإعادة تأثيثه حتى يليق باستقبال أهل خطيبها الأثرياء، جرت التعديلات على قدم وساق، وبمرور الأيام اتضح للمحيطين بهم كيف تحولت قمر من فتاة بسيطة إلى أميرة حقيقية ، تأمر وتنهي والكل يسمع ويطيع وينفذ كل ما تطلبه بسرعة ، لقد كانت سعيدة بشعورها الجميل الذي لا يمكنها وصفه .
لحظات بهيجة عامرة بنبض الحياة تعيشها قمر لأول مرة وهي تعد لليلة ستكون من أجمل ليالي العمر مملوءة بكل معني الحب والرومانسية ، اقترب موعد العرس ، وقمر تتنقل بين مصممات الأزياء وأرقى صالونات التجميل، وفي كل مرة تأتيها سيارة فخمة لتنقلها إلى حيث تريد وفق المواعيد التي حددتها أم خطيبها لها ، أحست قمر أنها دخلت عالماً ساحراً ، كان غريباً عليها ، لم تتصور يوماً أن تعيشه، لقد شاهدت وتعاملت مع نماذج عديدة من الناس لم تكن تتخيل وجودهم في الحياة ، فعالمها كان صغيراً ، محدوداً، وخيالها لم يكن أبداً على قدر هذا الاتساع الذي تعيش الآن حقيقته .
قمر معروفة بين زملائها في الجامعة بوجهها الملائكي، إنها لا تعرف الحزن المطلق ولا الفرح الكامل ، أيامها مشدودة بين الضحكة الخافتة والشهقة المندهشة والدمعة الحائرة ، في عيونها بريق من الغموض ، ظلت في مدرجات الكلية محور حديث الطلاب ، فهي إذا ابتسمت ظن جميع من حولها أنها تخصه هو بهذه الابتسامة أو بتلك اللفتة المعبرة عن مكنون تعجز الشفاه عن البوح به .
منحت والدة الشاب مبلغاً كبيراً من المال لوالدة قمر وطلبت منها أن تعد به ثياباً مفصلة لها ولأخواتها تليق بحضور عرس ابنتها ، لقد بدا أن كل ما بذلته الأم من جهود فإن مستوى ظهورها وظهور أخوات قمر وقريباتها وصديقاتها كان على مستوى بسيط جداً قياساً على ما ستكون عليه سيدات عائلة العريس فلا مجال للمقارنة أبداً بل لم يكن هذا الأمر لقمر مهماً ، كان الأهم عندها أن العرس كان فخماً وجميلاً ، ظهرت قمر في عرسها أجمل بكثير مما هي عليه وكأنهم رسموا لها ملامح أخرى صعب على أهلها أن يتعرفوا عليها بسهولة .
مرت حفلة العرس كحلم جميل ، عاشت تفاصيله كقصة من قصص ألف ليلة وليلة امتلأ فيها صدرها بمشاعر جياشة وهي تتلقي أجمل كلمات الإعجاب والتهاني الرقيقة، كان عريسها بجوارها لا تغادرها عيناه بعد أن اختارها عن حب وقناعة كاملة ، حمدت قمر الله كثيراً على هذه النعمة ودعت أن تستمر إلى آخر العمر .
كما كان مقرراً توجه العروسان إلى المطار للسفر في رحلة شهر العسل إلى مدينة فيرونا الإيطالية التي شهدت قصة حب روميو وجولييت والتي يعتبرها موطنه الثاني ويمتلك منزلاً فيها ويقضي فيها معظم أيام السنة ، في انتظار موعد إقلاع الطائرة ظلت مشاعرها معلقة به بلا مهبط وكأنها لم تصدق ما يحدث لها ، يكسر صمتها صوت المضيفة معلنة عن قرب موعد إقلاع الطائرة، بقيت تتأمل زوجها وصمته يثقل كاهله وسكون غريب يطبق على شفتيه كأن اللسان عجز عن الحراك، سألته قمر عن ذكرياته في هذه المدينة، انتبه من غفوته ثم تغلب على صمته وحدّثها عن حياته الماضية ومغامراته العاطفية المتعددة، كانت تفاصيل مغامراته تشعرها بالخوف والكآبة ،وتدفعها للسؤال الحائر ، لماذا لم يتزوج بواحدة ممن أحببنه وأحبّهن ؟ لم تشأ أن تغلق أحلامها على ومضات رموز سوداء بعدما عجزت عن تفسير الأمور بمنطقها ، بقي مخاض الخوف يشدها نحو حالة من القلق البارد من المجهول ، فيتبدل كل شيء حين يتبدد الإحساس بالأمان وتختلط المشاعر السابحة في الأوهام بأخرى مغيبة وثالثة منتشية ، للحظة يجف حلقها وتتحشرج الكلمات في صدرها ،ضيق شديد يلف رقبتها ، يخنقها كحبال متينة غليظة تقوى عليها وكلما مدت يدها تبعدها تجرحها عاد زوجها إلى صمته ثانية ، فتشابكت في نفسها خيوط الصبر والجزع ، لم يعد بإمكانها فصلها ، اجتاحتها مخاوف لم تستطع صدها لكن عادت إلى هدوئها وحاولت إقناع نفسها بأن معظم الشباب لا يتزوجون الفتاة التي ترضى أن تقيم معهم علاقة عاطفية قبل الزواج ، ثم تساءلت مرة أخرى من سيضمن لها أنه لن يعاود العبث مع الفتيات مرة أخرى ؟ سؤال يليه سؤال فيتشكل لها صورة سر خلف سواتر المجهول ، وصوراً مشوشة وأقدام مهرولة ونفوس لاهثة …. ذراعين مفتوحين لغد مغزول بالتكهنات ، للحظة شعرت أن عالمه متلاطم وسريع الأحداث ، فضاءات مشحونة بالرياح ودروب مرصوفة بالخوف ودهاليز مسكونة بالفوضى وبساتين مزروعة بالحذر خلف صمته المتهدج الأنفاس ، تشعر بأن حلمها يحتضر وأن بشاعة حقيقية مجسدة تنشب أظافرها في جسد الوهم مدججة بأسلحة الشك الراقد تحت رماد الدفء الوهمي ، ذاك الحلم الجميل يطيح بمثالية الرجل الذي ارتبطت به والمشيدة على رمال الزيف يكشف بشاعة الأنا المعكوسة على مرآة نرجسية وعادت ثانية تتلمس المبررات بأن من يقيم معها العلاقات قبل الزواج يملها ولا يكررها بعد الزواج ، ظلت تقنع نفسها بتلك المبررات لتطوي الخوف ، ثم تنفست قدراً عميقاً من الإيمان بالقدر والمكتوب .
حان موعد عودتهما من رحلة السفر، سمح لها بشراء المزيد من الهدايا لأهلها وصديقاتها، وكان سخي معها إلى أبعد الحدود. قامت بعد عودتها بزيارة أهلها وبدت لهم ملكة متوجة على عرش الدلال والسعادة ، ومن شدة خوف أمها عليها أخذت ترقيها من الحسد وطلبت من إخوتها عدم إخبار الناس بأية تفاصيل عن حياة أختهم .
مرت الأيام والشهور وكل شيء يبدو حلماً جميلاً في حياة قمر، الفيلا التي تعيش فيها ، علاقاتها الراقية مع أهل زوجها ومعاملة زوجها الطيبة كل شيء كان رائعاً، ولكن بقي في أعماقها قليلاً من الخوف بسبب تساؤلات والديها الكثيرة عن مدى رضاها بحياتها الجديدة، تساؤلات مكررة استغربتها قمر وكأنهم يبحثون عن عيب في زوجها أوتقصير ليقنعوا أنفسهم بأن هذه الزيجة ما هي إلا نتيجة لسبب معين ، لكن ما كان يجري أمامهم لا يتوافق مع تلك الأفكار والوساوس فكل شيء كان يسير لأفضل حال.
يوماً أصاب قمر قلقاً كبيراً عندما لفت انتباهها بعض الاعتلال في صحة زوجها ثم عندما علمت كثرة تردده على الطبيب، لم تقنع بتطميناته خاصة وأنه بقي مصراً على عدم الاستعجال في الإنجاب ، فهو يراها ما تزال صغيرة وليست مؤهلة بعد لمشاق الحمل وتربية الطفل، وصارحها بعبارة غريبة أنه خائف من وقوع خلافات أو حدوث مشاكل تعيق استمرار الزواج ، أكدت له أنه لا مجال لحدوث مشاكل مع كل هذا الاهتمام والطيبة والكرم ، ولكن ما أزعجها أن زوجها ليست لديه أفكار واضحة عن الدين ، وهو لا يصلي ولا يعرف كيف يصلي، ، كما لاحظت أنه ينظر إليها بإعجاب شديد عندما تصلي ويراقب صلاتها بدقة ويصغي جيداً عند تلاوتها للقرآن الكريم، كان يبتسم ويشجعها على المداومة والاستمرار، وكلما سألته عن سبب عدم التزامه يجيبها بأنه تربي وتعلم في مدارس أجنبية وعاش معظم سنين عمره بالخارج ، ولم يحرص أهله على تعليمه مثل هذه الأمور .
مر عام على زواج قمر وبدأت فكرة الإنجاب تطفو من جديد وتلح على قمر بإيعاز شديد من والدتها التي تؤمن بأن إنجاب الأطفال كفيل بتثبيت الزواج ، لكن زوجها ظل على موقفه ، فما كان منها أن قامت بما أشارت عليها والدتها ، صارحت حماتها شاكية رفض ابنها غير المبرر إنجاب الأطفال، ولكن صدمة قمر من تأييد حماتها لموقف ابنها كانت كبيرة . أصبحت قمر مهمومة، منعزلة ، لا تشعر ببهجة الحياة كما كانت اختفت ابتسامتها ، أصبح الحزن يسكن جفونها وكأنها لم تعش الحياة السعيدة ، تساورها أفكار مخيفة تجعلها في حالة انتظار شيء آخر خفي صعب عليها فهمه سيحدث ، هناك لغز أكيد استعصى عليها فكه ، عنها في حضرة إنسان يسمع ولا يتكلم ، يعرف ما تريد دون أن تطلب ، يفهم دون أن تشرح، يحتضنها بعينيه قبل ذراعيه ، يحترم عقلها قبل يعشق جسدها ، يغمرها بعطفه وحنانه، لم تصل لإجابة ما تفهمه أنها بانتظار حدث سيشكل حياتها من جديد مرة أخرى ، تعزز الخوف من المستقبل الذي صار مجهولا ، لم تجده منطقيا أو مقبولا أن لا تريد حماتها أحفادا من ولدها ، إنهم أغنياءوليس لديهم سبب واحد مقنع يفسر عدم رغبتهم أن تنجب لهم أطفالا. زادت عليها الوساوس وأتعبتها والهواجس تراودها بالظنون ، بدأ ينطفئ ذاك التوهج وهي تتطلع إلى ما مضى من أيام انقضت حبلى بالأحلام الوردية كأنها أسطورة قديمة تعيد عقارب الساعة سنة إلى الوراء ، تكبر دمعتها في المآقي ويكبر الألم في صدرها ، الأيام تعدو ولا تتوقف خلف ملامح أنهكها السؤال والغموض يطفئ ذلك البريق في عيونها، بدأ القمر تذبل استدارته، هل هي حقاً لا تليق بإنجاب حفيد للعائلة ، ولماذا اختاروني زوجة لابنهم ؟ لم تجد تفسيراً ، لجأت لأهلها وأطلعتهم على الأمر وما كان من حماتها، نصحتها أمها أن تكف عن تناول حبوب منع الحمل لتضعهم بذلك أمام الأمر الواقع ، وزينت لها الأمر بأن زوجها لم يجرب بعد متعة أن يولد له طفل ، وحين يعلم بحملها سيشكرها لأنها لم تأخذ برأيه ، بقيت الفكرة تراودها ومعلقة برأس قمر وقررت تنفيذها مهما كان الثمن، صادف هذا مزيداً من تدهور حالة زوجها الصحية وهو ما جعلها تؤجل تنفيذ ما عزمت عليه . ساءت حالة زوجها أكثر فأكثر مع كل صباح يوم جديد، وتفرغت قمر للاعتناء به ورعايته ، لكن كلما مرّ يوم تسوء حالته وكأن لا جدوى من الأدوية ، وتتساءل قمر عن طبيعة مرضه ولا أحد يجيبها ، ويزيد ألمها عندما تراه في حالة بكاء دائم ، بكى أمامها بكاء مريراً بل وطلب منها أن تسامحه، استغربت طلبه فهو لم يخطئ معها أبداً ولم يقصّر في حقها،فعن أي شيء يريدها أن تسامحه.. لم يرد عليها بل دخل في نوبة بكاء ونحيب. لم يدم بعدها الأمر طويلاً حتى انتقل إلى رحمة الله ، أصيبت قمر بصدمة شديدة ، وعبست وصارت تقضي أيامها مهمومة وموهومة بأغرب الأشياء التي لم تفهمها ، سكن الأنين جوف لياليها ، تكابد لوعة الفراق، فغرقت في ظلمة الوحدة تندب حظها العاثر من عمر يجري ولم يترك أثراً وهّاجاً سوى تلك الجدران التي شهدت سعادتها في ليلة عرسها وفستانها التي نسجت خيوطه بكل أحلامها الأنثوية .
لم يكن سهلاً على قمر أن تفقد زوجها وحبيبها الذي تعلقت به ، وبعد أيام العزاء ومرور فترة العدة جاءتها حماتها تخبرها أنها ستكون بحاجة لإجراء بعض التحاليل الطبية ، لم تر قمر سبباً لذلك فهي لم تشتكي من مرض، طمأنتها حماتها أن ذلك من باب الاحتياط فقط ، أطاعتها قمر وأجرت التحاليل ، وجاءت نتائجها صادمة لقد حلت الكارثة بقمر ، تبين أنها مصابة بمرض الإيدز ، نقله لها زوجها ، حينها وجدت التفسير الكامل والشافي لكل ما مرت به من غموض كاد يقتلها ،لقد اختاروها من بين كل الفتيات وبنات العائلات الثرية ، اختاروها هي الفتاة الفقيرة لتسلية ولدهم المحكوم عليه بالموت كي لا يقضي أيامه الباقية وحيداً، ولم يفكروا بها ولم يكترث أحد لألمها ولموتها المنتظر بلا أي ذنب ، لقد انتهى الأمر عند بوابة السعير ، هل يستحق القلب الطيب الموت بهذه الطريقة ؟ أم أن قلة حيلتها ساقتها إلى هذا المصير !لم تكن تدري أنها رحلة إلى الجحيم وليست نقلة لتغيير الحياة، فجرت صمتها بصرخة اللاعودة، تحولت قمر إلى إنسانة متوحشة ، غليظة الطباع تصرخ في وجوه كل الناس ولسان حالها يتهمهم كلهم بالسبب في محنتها ، حاولت حماتها ان تسترضيها بمبلغ كبير من المال وبالضمانات الكافية لها ولأهلها ، سكنت عندما فكرت في حالة أهلها فهم يستحقون التضحية ، قررت أن لا تخبرهم بالحقيقة فلا فائدة الأن من ذلك .
عانت قمر فترات من الغيبوبة استسلمت لها لأن فارسها عائد من مغامرته حاملاً إليها ثوب عرسها الممزق ومزق معه أمنياتها وبدد أحلامها وأحال بسمتها الدافئة إلى صقيع صابرة إلى حين يأتيها الموت بعدما تجمدت أعضاؤها، سكتت قمر إلى الأبد لتموت صريعة بثوب أحلام عرسها الممزق ثمناً لزواج حسدها الناس عليه .