متحف السودان القومي.. ضحية النهب والدمار خلال عامين من الحرب
القاهرة – (أ ب):
صارت قاعات العرض داخل أكبر متاحف السودان، والتي كانت يوما ما مليئة بالتماثيل والآثار التي تعود إلى قرون من الحضارات القديمة، مشهدا للحطام المتناثر. وتقف فاترينات العرض خالية، ومحطمة. وثمة مومياء داخل صندوق تخزين مفتوح… لقد جرى نهب كافة القطع الأثرية الذهبية.
وتعرض متحف السودان القومي للدمار بسبب الحرب الدائرة في السودان على مدار نحو عامين، حيث سرقت معظم القطع الأثرية. وتلقي السلطات بالمسؤولية في ذلك على قوات الدعم السريع، شبه العسكرية، التي كانت تسيطر على هذه المنطقة من العاصمة الخرطوم، على ضفاف نهر النيل خلال معظم فترات الصراع.
ومنذ استعادة الجيش السوداني السيطرة على العاصمة الشهر الماضي، يقوم المسؤولون بتقييم الأضرار والخسائر أملا في في عودة المتحف يوما ما إلى ما كان عليه في سابق عهده.
وقال المسؤول البارز بالهيئة العامة للآثار والمتاحف، جمال محمد زين العابدين، لوكالة أسوشيتد برس (أ ب): “الخسائر ضخمة للغاية، ومثيرة للحزن. جرى سرقة عدد كبير من الآثار… دمرت قوات الدعم السريع كل ما يتعلق بحضارة الشعب السوداني”.
كان متحف السودان القومي يحوي آلاف القطع التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري القديم، قبل تطور الزراعة بحقبة طويلة، مرورا بالممالك القديمة في السودان. ويرجع الكثير من هذه القطع إلى عصر النبطيين (مملكة الأنباط)، في القرنين السابع والثامن قبل الميلاد، عندما حكم الفراعنة من السودان معظم أنحاء مصر القديمة، أو من مملكة مروي اللاحقة التي أقامت أهرامات في السودان. وفي فترات لاحقة، احتوت قاعات أخرى على آثار مسيحية وإسلامية.
وبقيت بعض القطع في مكانها، حيث إنها ثقيلة للغاية ولا يمكن حملها ونقلها. وفي حديقة المتحف، لا يزال هناك صف من الأسود الحجرية، وأيضا تمثالان على الطراز الفرعوني لـ “تابو”، بحجم ضخم. ولا تزال هناك ثلاثة معابد فرعونية جرى نقلها من شمال السودان، ثم أعيد تجميعها في المتحف القومي خلال ستينيات القرن العشرين، كي لا تتضرر من ارتفاع مستوى المياه في بحيرة ناصر بسبب إقامة السد العالي في مصر.
ولكن اختفت قطع أخرى كثيرة.
وقال زين العابدين إن اللصوص اقتحموا المخازن المغلقة وسرقوا جميع القطع الأثرية الذهبية، وأوضح أن من السابق لأوانه تحديد حجم ما جرى سرقته من مجموعة المتحف.
المتاحف دفعت ثمنا باهظا جراء الحرب
وألقى زين العابدين باللوم في التدمير على قوات الدعم السريع، التي كان لديها مقاتلون في المتحف خلال مرحلة ما من الحرب.
واندلعت الحرب في السودان خلال أبريل/نيسان 2023، بعدما تطور التوتر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى معارك في شوارع الخرطوم، سرعان ما امتدت إلى أنحاء البلاد. وسيطرت قوات الدعم السريع على معظم أنحاء الخرطوم خلال الحرب، بما في ذلك المنطقة التي يوجد بها المتحف.
والآن، بعدما جرى طرد مقاتلي الدعم السريع، صار حجم الدمار الناجم عن القتال والنهب جليا.
وقال زين العابدين: “بوجه عام، تعرضت الخرطوم للدمار، وخاصة وسط الخرطوم”، وأضاف: “لم يسلم أي مبنى من سفك الدماء ولا من السرقة… هذا ما رأيته بعيني“، مشيرا إلى أن جميع متاحف المدينة تضررت، خاصة متحف الإثنوغرافيا، حيث جرى هدم جدرانه وحرق قاعاته ومكاتبه.
وتشكل عملية النهب صفعة لبلد بهذا التراث الثري، وهو تراث له صدى عميق بين السودانيين، ولكن في الغالب لا ينتبه له أحد في الخارج بسبب عقود من عدم الاستقرار في السودان.
محو التاريخ
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أعربت في سبتمبر/أيلول عن قلقها إزاء عمليات النهب التي يتعرض لها متحف السودان القومي، حيث كانت ساعدت في تطويره خلال عام 2019. وحذرت المنظمة من أن بيع أو إزالة القطع الأثرية “من شأنه أن يؤدي إلى اختفاء جزء من الهوية الثقافية السودانية، وتعريض تعافي البلاد للخطر.”
وقال متحدث باسم اليونسكو يوم الجمعة الماضي إن الأضرار وعمليات النهب والتدمير التي لحقت بالمتاحف والمواقع الثقافية وقعت في أنحاء ولايات السودان، في الخرطوم ونهر النيل والولاية الشمالية والجزيرة وإقليم دارفور. وليس من الممكن إجراء تقييم دقيق بسبب القتال الذي لا يزال دائرا.
ويعد متحف السودان القومي ضمن العديد من المواقع التي تعرضت “للنهب على نطاق واسع، ولأضرار جسيمة “، بحسب ما ذكرته اليونسكو.
وقال صديق محمد صديق، الذي يعيش بالقرب من المتحف، إن قوات الدعم السريع تعهدت بتطبيق الديمقراطية وبالتحرير، ولكنها بدلا من ذلك “تمحو أقدم أمة في التاريخ، وتاريخها.”
وقال زين العابدين إن خطط إعادة إعمار المتاحف التي تعرضت للتدمير، ستبدأ بعد أن تقوم لجان بتقييم الأضرار، وتقديم توصيات تتضمن مقترحات لإعادة تأهيلها. ومن المتوقع أن تشمل الخطط ترميم المباني، وأماكن تخزين الآثار، وإصلاح الأراضي المحيطة بالمتحف.
وأودت الحرب في السودان منذ اندلاعها قبل عامين، بأرواح ما لا يقل عن 20 ألف شخص، رغم أنه يرجح أن يكون العدد أكثر من ذلك بكثير. كما أدت الحرب إلى نزوح أكثر من 14 مليون شخص من منازلهم، ودفعت أجزاء من البلاد إلى براثن المجاعة.