أخبار رئيسية

الشيخ راشد بن عويضة القبيسي: رحلة حياة رجل جمع بين السخاء الأصيل والحكمة السياسية والرؤية الاقتصادية

مدينة دوشانبي – طاجيكستان / بقلم : محمد ياسين نظروف

في عالمٍ يعج بالصخب والضجيج، ثمّة رجال يُضيئون الدروب لا بضجيج الكاميرات، بل بصمت الحكمة، وبسخاء لا يُروى إلا في الأساطير. من هؤلاء، يسطع نجم الشيخ راشد بن عويضة القبيسي، رجلٌ لم يُولد فقط في كنف قبيلة شامخة، بل أعاد تعريف معنى النُبل العربي في مشهدٍ تتآكل فيه القيم
بين الكرم سيرة، وبين السياسة بوصلة، وبين المعرفة رسالة، يقف رجل ليس ابن زمنه فحسب، بل صانع أزمنة. لم يكتفِ بوراثة النبل من أصالة قبيلته، بل ابتكر نبلًا جديدًا قائمًا على العطاء والحكمة والرؤية المستقبلية، محولًا الفتوة العربية من إرث قبلي إلى منهج حياة ومؤسسات راسخة

%D8%B1%D8%A7%D8%B4%D8%AF %D8%A8%D9%86 %D8%B9%D9%88%D9%8A%D8%B6%D8%A9 %D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%8A%D8%B3%D9%8A

جذور راسخة في أرض الإمارات

وُلد الشيخ راشد بن عويضة القبيسي عام 1930م (1354هـ) في كنف قبيلة القبيسات، إحدى أعرق القبائل المنتمية إلى حلف بني ياس، ذلك التحالف القبلي الكبير والمؤثر في تاريخ المنطقة. قبيلة تجري في عروقها دماء الريادة والسيادة، وتكتسب أهمية خاصة في تاريخ الإمارات، حتى أن الشيخة سلامة بنت بطي القبيسي، والدة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات، كانت من هذه القبيلة الأصيلة.
في بيتٍ استقى من التقاليد مروءتها، ومن البادية صلابة رؤيتها، نشأ راشد الفتى الذي أصبح مؤسسًا وصانعًا ومُلهمًا. لكنه يدرك منذ البداية أن مستقبل المنطقة لا يكمن في الانغلاق على الموروث، بل في تحويله إلى رافعة للتطور والانفتاح على العصر وتحدياته.

%D8%B1%D8%A7%D8%B4%D8%AF %D8%A8%D9%86 %D8%B9%D9%88%D9%8A%D8%B6%D8%A9

شريك في تأسيس دولة وبناء نهضة

في تلك الفترة التاريخية المهمة، كان الشيخ راشد يكتب في الدستور، يضع اللبنات، يفتتح المصارف، ويُطلق الصحف. لم يكن مجرد شاهد على ولادة دولة الإمارات العربية المتحدة، بل كان أحد صناع هذا الحدث التاريخي. فقد كان من الرجال المخلصين الذين التفوا حول المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان منذ بدايات مسيرة بناء الدولة، وساهم في وضع اللبنات الأولى لهذا الصرح الشامخ
كان من الأوائل الذين وقفوا إلى جانب مؤسس دولة الإمارات الشيخ زايد طيب الله ثراه، مشاركًا في مراحل التأسيس، ناقلًا لنبض الناس، حاملًا لثقة القيادة. من الوفد الذي ذهب إلى بريطانيا، إلى حضوره في الاجتماعات الدولية، إلى مساهمته في كتابة الدستور، تجلّت مكانته كأحد مؤسسي الدولة الحديثة.

%D8%B1%D8%A7%D8%B4%D8%AF %D8%A8%D9%86 %D8%B9%D9%88%D9%8A%D8%B6%D8%A9 1

رجل دولة وصانع قرار

وقد كان حضور الشيخ راشد في المشهد السياسي يمثل أكثر من مجرد منصب، بل دورًا في صياغة القوانين، في حمل هموم الناس، في ترسيخ أسس الوطن. فقد شغل عضوية المجلس الاستشاري لإمارة أبوظبي، ثم انتقل إلى المجلس الوطني الاتحادي، حيث كان نائبًا أول لرئيس المجلس لمدة خمسة وعشرين عامًا.
كان رئيسًا للجنة التشريعية الأولى، وكان له دور محوري في صياغة دستور دولة الإمارات العربية المتحدة عند تأسيسها. ومن خلال هذه المناصب، لم يكن مجرد مسؤول يؤدي واجبًا، بل كان وما يزال صوتًا للشعب وناقلًا لاحتياجاته ومشاركًا في تشكيل رؤية الدولة المستقبلية.

%D8%B1%D8%A7%D8%B4%D8%AF %D8%A8%D9%86 %D8%B9%D9%88%D9%8A%D8%B6%D8%A9

رؤية اقتصادية ببصيرة إنسانية

في عام 1958، أسس مجموعة “بن عويضة القابضة”، التي تُعد من أقدم المؤسسات التجارية في الدولة. لم تكن تجارته ربحية بقدر ما كانت إنمائية، ترى في الاقتصاد وسيلة لرفاه الإنسان. توسعت أنشطتها لتشمل قطاعات متنوعة كالنفط والغاز والمقاولات والطيران والتجارة والإعلام.
ساهم في إنشاء بنوك كبرى، فكان من مؤسسي بنك أبوظبي الوطني عام 1968 (الذي أصبح لاحقًا جزءًا من بنك أبوظبي الأول FAB)، كما كان من أبرز مؤسسي بنك الخليج الأول (FGB)، والبنك التجاري الدولي (CBI)، وبنك الفجيرة الوطني. وكان من الأعضاء المؤسسين لغرفة تجارة وصناعة أبوظبي التي تأسست عام 1966.
ترأس أول وفد تجاري من أبوظبي إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وساهم في تطوير مشاريع كبرى كمطار أبوظبي والمستشفى المركزي القديم. ما زال يؤمن بأن الاقتصاد ليس مجرد أرقام وإحصائيات، بل هو في الأساس بناء للإنسان وتحقيق لطموحاته ورفاهيته.

منبر إعلامي من قلب الصحراء

حين أطلق صحيفة “الوحدة” عام 1973، أرادها لسانًا وطنيًا، يحكي للعالم حكاية وطنٍ يُولد من الرمل. لم تكن الصحيفة جريدة فحسب، بل منبرًا للثقافة، للشعر، للهوية. كانت أول صحيفة يومية خاصة في دولة الإمارات، ومنبرًا للرأي والفكر والثقافة الوطنية.
شغل منصب رئيس تحرير الجريدة لسنوات طويلة، وكان يشرف بنفسه على سياستها التحريرية. كان ولا يزال حريصًا على تخصيص مساحات للشعر الشعبي والتراث الإماراتي، إيمانًا منه بدور الإعلام في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيزها.

%D8%B1%D8%A7%D8%B4%D8%AF %D8%A8%D9%86 %D8%B9%D9%88%D9%8A%D8%B6%D8%A9 2

حكاية لقاء مع “حاتم الطائي المعاصر”

في صيف عام 1999، كنت في دبي حين التقيت بصاحب الفضيلة الدكتور محمد سيد الرشد، الذي دعاني لمرافقته في زيارة إلى أبوظبي للقاء رجل وصفه بـ”حاتم الطائي المعاصر”، في إشارة إلى ذلك الفارس العربي الذي ضُربت به الأمثال في الكرم والسخاء.
وصلنا إلى دار الشيخ، حيث استقبلنا شاب مؤدب يُدعى يوسف السوداني، الذي أدخلنا إلى “المجلس”. كان مجلس الشيخ راشد يتكون من صالتين فسيحتين – شرقية وغربية – وساحة رحبة، وغرف متعددة للضيوف، إضافة إلى المرافق الأخرى.
دخلنا الصالة لنجدها غاصّة بالضيوف من مختلف الأعراق والثقافات، وإذا بالشيخ، الوقور المتواضع، ينهض من مكانه، يستقبلنا بحفاوة بالغة، ويُخصّ الدكتور الرشد بتحية خاصة، ثم يدعونا للجلوس. هكذا تعرفت على معالي الشيخ راشد بن عويضة القبيسي، رجل لا يجسد فقط كرم حاتم الطائي، بل يمثل نموذجًا للحكمة والمروءة والشهامة العربية الأصيلة.

المجلس.. جامعة مفتوحة بلا أسوار

لا يزال مجلسه، في مساء كل ثلاثاء، يتحول إلى منبر علمي وثقافي، يستضيف كبار العلماء لإلقاء محاضرات في التفسير والحديث والتاريخ والاقتصاد والأدب. إنه أكثر من مكان للضيافة، بل هو بمثابة جامعة مفتوحة يرتادها أصحاب الفكر والعلم والأدب.
حيث تتعانق العمامة مع ربطة العنق، والبدوية مع الحداثة، نرى من العالم أكثر مما نراه في مؤتمرات السياسة. وفي زاوية أخرى، يتعلم الأطفال و الشباب القرآن على يد الشيخ يحيى اليمني، تحت إشراف الشيخ راشد نفسه، الذي يجلس بعد الفجر، تُتلى آيات النور على مسامعه في إشراقة كل صباح.

%D8%B1%D8%A7%D8%B4%D8%AF %D8%A8%D9%86 %D8%B9%D9%88%D9%8A%D8%B6%D8%A9 %D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%8A%D8%B3%D9%8A 1

عاشق للمكتبات والكتاب

يُعرف الشيخ راشد بشغفه بالكتب والمعرفة، فهو يمتلك مكتبات ضخمة في العديد من المدن: أبوظبي، العين، دبي، رأس الخيمة، ومكة المكرمة. يروي أيوب التشادي: “إنه لا يزور الأسواق، بل المكتبات. كنت أرافق الشيخ في معظم أسفاره، وبينما ينشغل الآخرون بزيارة الأسواق والمحلات التجارية، كان الشيخ لا يزور إلا المكتبات. يشتري الكتب بالعشرات، ويقرأها في أوقات فراغه، ويضعها في مكتباته المختلفة”.
يُعد الشيخ راشد من علماء اللغة العربية وآدابها، ومن المفسرين البارزين للقرآن الكريم. وهو يعشق شعر عنترة بن شداد والإمام الشافعي، ورغم تقدمه في السن، إلا أنه ما زال محتفظًا بما حفظ من آيات القرآن وأبيات الشعر. وفي الربيع الماضي، حين كنا معه في داره بأبوظبي، وبدأ أيوب التشادي بتلاوة أشعار عنترة، أشرق وجه الشيخ وشاركه في التلاوة دون أن يخطئ في بيت واحد.

ابتكار حتى في قياس الزمن

من المواقف اللافتة التي صادفتها في مسجد الشيخ راشد، أنني لاحظت وجود ساعتين، إحداهما تشير إلى الوقت المعتاد والأخرى متقدمة. صححت إحداهما، فقال لي: “هذه تشتغل وفق التقويم الهجري، والثانية حسب التقويم الميلادي”. علمت حينها اهتمامه الكبير بالتراث الإسلامي وإحيائه بأساليب علمية حديثة وأدركت إرادته أن حتى الزمن يجب أن يُقاس بهوية الأمة ووضع أول تقويم هجري علمي في الإمارات عُرف باسم “تقويم الظفرة”.
والشيخ: لا يرى تناقضًا بين الأصالة والمعاصرة، بل يرى فيهما تكاملًا يثري الهوية ويعزز الانتماء.

العطاء.. حين يصبح نهج حياة

كثيرون يتحدّثون عن الكرم، لكن قلائل يجسّدونه كما يفعل الشيخ راشد. أبواب داره مفتوحة ليلًا ونهارًا ولا يُردّ ضيف ومن ليس له مأوى، يجده في داره ومن كان غريبًا، يصبح في داره من أهل البيت
ما يقدمه الشيخ راشد لا يُقاس بمشاريع ولا أرقام. إنه ذلك النوع من العطاء الذي يُمارَس بصمت، ويُنسى ذكره فور أن يُؤدى، لا انتظاراً لثناء وشكر، بل تواضعاً أمام الله. في داره أقام مسيحي أمريكي عاماً كاملاً ساعده مساعدة إنسانية حتي أكمل مهمته، وتكفّل بعلاج جرحى لا يعرف أسماءهم في مصحة ساكي باوكراين…
يرى الشيخ راشد أنه بحاجة إلى الفقراء والمحتاجين أكثر من حاجتهم إليه، ويشكر الله تعالى أن جعل في ماله حقًا للسائل والمحروم. لا يمنّ بعطائه، بل يعدّه واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا وشرعيًا. عطاؤه ليس
صدقة، بل نهج حياة.

في الختام: البطل المجهول

الشيخ راشد ليس مجرد رجل، بل هو البطل المجهول الذي يمشي على الأرض. رجلٌ يحوّل القيم إلى نهج، والكرم إلى قانون، والعقل إلى أداة بناء. في زمن المادية والأنانية، يقف الشيخ راشد شاهدًا على أن قيم الكرم والمروءة والحكمة ليست شعارات جوفاء، بل ممارسات حية يمكن أن تبني أمة وتنهض بمجتمع.
إن مسيرة الشيخ راشد بن عويضة القبيسي ليست مجرد قصة نجاح فردي، بل هي ملحمة وطنية تروي كيف للإنسان أن يصبح بطلاً في حد ذاته وكيف يومياً يؤدي البطولة ، وكيف يمكن للقيم أن تتحول إلى صروح شامخة. إنها قصة رجل يعيش ليكون جسرًا بين تراث عريق ومستقبل مشرق، وبين أصالة البادية وتطلعات الحداثة.
طوبى لرجلٍ يمضي في حياته بالعزيمة نفسها، وأثره مستمر، وصوته حاضر، في دستورٍ، في صحيفةٍ، في قصيدةٍ، في جائع شبع، وفي وطنٍ بُنيَ على كتفيه. بارك الله في حياة معالي الشيخ راشد بن عويضة القبيسي، حاتم الطائي المعاصر، يا بطل المجهول ، يا من أحييت قيم العرب وجسدتها في عصر النسيان
أدام الله عليك الصحة والعافية، أيها النبيل، أيها الفارس، أيها المُهندس الحقيقي لنهضة الإمارات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جريدة الوحدة