مرئيات

“بيت الحكمة” يستعرض تاريخ علم الجغرافيا ورسم الخرائط على امتداد 13 قرناً

ضمن معرض يبرز "أدب الرحلات" في التاريخ الإسلامي

الشارقة – الوحدة:

من شبه الجزيرة العربية إلى جنوب أوروبا، مروراً ببلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا، وامتداداً نحو الشرق عبر الهند والسند وبلاد ما وراء النهر، انطلق الرحالة المسلمون في رحلات استكشافية أرست أسس علم المسالك والممالك، أحد فروع علم الجغرافيا في الحضارة الإسلامية، ووثّقت صورة العالم كما عرفه المسلمون. لم تكن رحلاتهم مجرد تنقل بين المدن والبلدان، بل كانت سجلاً حياً لحياة الشعوب وثقافاتها، ولتفاصيل جغرافية واجتماعية دوّنوها في نصوص وخرائط بدقة فاقت معايير العصر آنذاك.
وفي “بيت الحكمة” بالشارقة، يعود هذا التراث المعرفي النابض إلى الواجهة من خلال معرض “فصول من الفن الإسلامي: أدب الرحلات”، الذي يستعرض مسيرة 13 قرناً من الاكتشافات والتدوين، ويأخذ الزوار في رحلة لتتبّع مراحل تطور علم الجغرافيا ورسم الخرائط، بدءاً من الرقاع اليدوية إلى الوسائل الرقمية الحديثة.
يفتح المعرض نافذةً على عوالم وثّقها الرحالة المسلمون في مخطوطاتهم وكتبهم، مدفوعين بشغف الاكتشاف والفضول المعرفي، متنقلين بين الصحارى على ظهور الإبل أو عبر البحار. ومن خلال مخطوطات نادرة، وخرائط يدوية، ومشاهد دوّنها الرحالة بخط أيديهم، يتيح المعرض للزوار فرصة التعرّف إلى رحلات ابن بطوطة التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، ويوميات ابن جبير التي وثّق فيها مشاهداته في القدس ومصر والحجاز ونجد والعراق، كما يتتبّع التصورات الجغرافية لدى اليعقوبي، ويسلّط الضوء على إسهامات ابن ماجد في علم الملاحة، الذي اعتمد على النجوم كوسيلة لتحديد الاتجاهات في أعالي البحار.

خط زمني لتاريخ رسم الخرائط

في واحدة من أبرز محطات المعرض، يعود الزوار إلى القرن الثاني عشر الميلادي، حيث تتجلى عبقرية الجغرافي المسلم الشريف الإدريسي في خريطته “المقلوبة” الشهيرة، التي وضع فيها الجنوب في الأعلى والشمال في الأسفل، تماشياً مع التقليد السائد آنذاك، الذي كان يُعلي من شأن مكة ويجعلها مركز العالم. لم تكن الخريطة مجرّد عمل فني أو جغرافي، بل مشروعاً طموحاً كُلِّف به الإدريسي من قِبل الملك روجر الثاني، حاكم صقلية، بهدف رسم صورة دقيقة للعالم المعروف آنذاك، فأصبحت خريطة الإدريسي من أعظم الإنجازات الكارتوغرافية في العصور الوسطى، لما قدمته من تفاصيل مذهلة أهّلتها لتكون واحدة من أولى المحاولات العلمية لرسم العالم على أسس منهجية.

%D8%A8%D9%8A%D8%AA %D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9

تمضي هذه المحطة بالزوار في خط زمني متدرّج يرصد التحولات الكبرى في فن رسم الخرائط، من القرن الرابع عشر حتى السادس عشر، حيث بدأ الاتجاه الجغرافي ينقلب نحو الشمال، متأثراً بترجمة كتاب “الجغرافيا” لبطليموس، واكتشافات كولومبوس وفاسكو دا غاما وغيرهما من الرحالة الأوروبيين.
ومن القرن السادس عشر حتى التاسع عشر، يستعرض المعرض تطور أدوات القياس الدقيقة مثل التلسكوبات والمزولات الزاويّة والكرونومترات البحرية وتأثيرها على إحداث نقلة نوعية في دقة الخرائط. ومع دخول القرن العشرين، شهد علم الخرائط طفرة جديدة مع التصوير الجوي، وتقنيات الاستشعار عن بُعد، والأقمار الاصطناعية التي قدمت أولى الصور الكاملة لكوكب الأرض من الفضاء. وبفضل ظهور نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، دخلت البشرية عصر الخرائط الرقمية، التي أصبحت أداة حيوية في التخطيط الحضري، ومراقبة التغيرات البيئية، وتعزيز التواصل بين دول العالم.

الألفية الثالثة والعصر الرقمي

مع بداية القرن الحادي والعشرين، شكّلت محركات “جوجل إيرث” ونظم المعلومات الجغرافية “GIS” ذروة التطور في الجغرافيا، ونقلت علم الخرائط من المشاهدة العينية إلى العالم الرقمي المستند إلى صور الأقمار الاصطناعية، وتقنيات المسح الضوئي “ليدار”، التي تستخدم الليزر النابض لقياس النطاقات والمسافات المتغيرة بالنسبة للسطح، وتقدم نماذج ثلاثية الأبعاد لسطح الأرض، بالإضافة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي التي ساعدت على تحليل البيانات.
هذا التطور الهائل فتح آفاقاً جديدة لاستكشاف العالم، وحوّل الجغرافيا إلى مادة معرفية في متناول جميع أفراد المجتمعات ولم تعد حكراً على الجغرافيين، وأتاحت محركات “جوجل إيرث” للمستخدمين إمكانية تعديل اتجاه الخريطة نحو الجنوب، بنفس المنهجية التي تبناها الإدريسي في خريطته في القرن الـ12 الميلادي، فتحول الاستكشاف من رحلة مادية، إلى تجربة رقمية تمتد إلى ما وراء الحدود، وتفتح الأبواب إلى عوالم جديدة من المعرفة.
ويستمر معرض “فصول من الفن الإسلامي: أدب الرحلات” في بيت الحكمة حتى تاريخ 5 يوليو، ليسلط الضوء على إبداعات أشهر الرحالة والجغرافيين ورسامي الخرائط في العصر الذهبي للعلوم وغيره من العصور، وذلك من خلال أربعة أقسام تركز على علم المسالك والممالك؛ وخرائط الإدريسي الشهيرة؛ والأدوات الملاحية القديمة؛ وأدب الرحلات في العصر الحديث، بالتعاون مع دارة الدكتور سلطان القاسمي؛ وهيئة الشارقة للمتاحف؛ ودار المخطوطات في إمارة الشارقة؛ ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى