“بكين: المدينة والسنوات”… حكايات تُروى بأصوات الحجر والحنين إصدار جديد عن “مجموعة كلمات”
الشارقة – الوحدة:
يجذب كتاب “بكين: المدينة والسنوات” قارئه منذ صفحاته الأولى، بما يملكه من استعادة الذكريات وعمق التأمل الفلسفي، ليمنحه نافذة على بكين كما لم تُكتب من قبل: “بكين التي تتنفس من حجارة الأزقة، و تحتفظ بتاريخها في صمت الجدران، وتتكلم عبر ظلالها أكثر مما تتكلم عبر معالمها الصاخبة”.
في هذا الكتاب الصادر بترجمته العربية عن “روايات”، إحدى شركات مجموعة كلمات، بترجمة يارا المصري، في 520 صفحة من القطع المتوسط، يكتب الروائي الصيني نينغ كِن أربعة وأربعين فصلاً بلغةٍ تنبض بالحياة، لتشكّل خريطة وجدانية تُعيد رسم المدينة عبر عيني كاتبها، وتقدّمها ككائن حيّ يتغير، ويُربّي، ويحتفظ بالأثر، تماماً كما يحتفظ الزمن بأعمق لحظاته في الحجر القديم.
بنية تُشبه خريطة
يبدأ نينغ كِن بمفاتيح تُلخّص رؤيته: “المدينةُ باختصارٍ هي وعاءُ الزمن” (ص15)، ثم يفتح الخريطة على حارات، وشوارع، وباحات، تُماثل حجرات ذاكرة شخصٍ يتتبّع طفولته منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم. كل مقطعٍ يحتفظ باستقلال قصير يشبه “لقطة فوتوغرافية” ثم يندمج في تيار سردي طويل يجعل القارئ يتقدّم ويتراجع مع الكاتب بين الحاضر والماضي.
مدينةٌ تُربّي أهلها
المحور الأول هو العلاقة العميقة بين الراوي والمدينة. ففي مقطعٍ يستعيد فيه سنوات الشباب يقول: “منحتني بكين كثيراً من الأشياء غير الملموسة، التي إن لم تكن نعمة، فهي قَدَر” (ص26). هنا تنكشف بكين
باعتبارها “مُعلِّمة الصمت” التي تمنح سكانها دروساً لا تُرى: إحساساً بالإنتماء حتى وسط تحوّلات عنيفة، وقوةً على التذكّر بالرغم من محو الشوارع القديمة.
وضوحٌ عبر الضباب
يصف الكاتب ارتباكه أمام معمار العاصمة المعاصرة ونُصبها العملاقة، ليعترف أخيراً: “أفضّل قبول بكين التي لا أستطيع رؤية نفسي فيها بوضوح، عوضاً عن تلك الأماكن التي أرى فيها نفسي من نظرة واحدة” (ص25). هذه الجملة تلخّص فلسفة الكتاب: صورة الذات لا تتجلّى إلا حين تنكسر في مرآة المدينة المتغيّرة.
أركيولوجيا الذاكرة
لا يكتفي نينغ كِن بتأمل الحاضر؛ بل يحفر في طبقاته العميقة؛ يذكّرنا بأن “لكل فردٍ في نهاية الذاكرة وبدايتها (عصره البرونزي)” (ص35)؛ أي تلك الطبقة الأولى التي تحدّد نبرة الحنين والألم معاً. من هنا تتوالى صفحات تستعيد العصفورين الميتين، والقطارات البطيئة، وسور المدينة الذي “كان يُلقي ظلاً شاسعاً لا يهبّ فيه النسيم من ذاته، بل من ثناياه”… صورٌ تُعيد تشكيل الزمن في حركة السرد دون حاجة إلى تنظير خارجي.
المدينة غير المرئية
وتصل القراءة ذروتها حين يقرر الكاتب أنّ “الحقيقية غير مرئية، وثمّة بكين في قلب كل شخص”، مستعيراً هذه العبارة من تشين شي شي؛ بكين الواقعية إذن ليست شوارع وأبراجاً فحسب، بل هي حقل مشاعر خاص ينمو داخل كل من لمس حجارتها أو تنفّس رطوبة ضبابها. هذا المنظور يجعل الكتاب أقرب إلى قصيدةٍ طويلة نقشت في هوية المكان أكثر مما هو مذكّرات تقليدية.
“لا مرئيات” توثق تاريخ مدينة
يعتمد نينغ كِن على لغة تتأرجح بين التقرير والتأمل، مستعيناً بصورٍ دقيقة تُجسّد المفرد واليومي، فتتحوّل الدراجة، والمصباح الأحمر الخافت في الحارة، و القطط المختبئة في الأعشاب إلى علامات على تحرّك التاريخ في الجسد الفردي. الترجمة تحافظ على إيقاع الأصل، وتنقل للقارئ العربي حساسية الكاتب تجاه تفصيلٍ صغير يوحي بتحوّلٍ حضاري ضخم.
يقدّم “بكين: المدينة والسنوات” قراءةً متجددة لمعنى “المدينة العربية” أيضاً؛ فكل قارئ يستطيع أن يرى في بكين نسيج مدينته، وأن يستعيد أسئلته حول الذاكرة والحداثة والهوية. ومن دون افتراضات نظرية خارجة عن النص، ينجح الكتاب في تذكيرنا بأن الأدب الحقيقي يكشف أكبر التحولات في حكايات صغيرة وربما “غير ملحوظة”؛ حكايات تصبح، مع الوقت، أوثق وثائق التاريخ.