صيفٌ خليجيٌّ استثنائيٌّ: المؤتمرات الكبرى تعيد رسم خريطة السياحة وتُعزز من تنويع الاقتصادات
بقلم: محمود جمال سعيد حجازي – الباحث الاقتصادي في الشأن الدولي
تستعد دول الخليج العربي لصيفٍ استثنائيٍّ هذا العام، ليس فقط على مستوى درجات الحرارة المرتفعة، بل على صعيد الزخم السياحي غير المسبوق والفعاليات الدولية المتلاحقة. لقد بات هذا القطاع أحد الأعمدة الرئيسية للاقتصادات الخليجية غير النفطية. ومع اقتراب ذروة موسم الصيف، وبدء العد التنازلي لأجندة المؤتمرات والمعارض الكبرى حتى نهاية عام 2025، تشهد المنطقة ما يُشبه الطفرة في قطاعٍ يحتل اليوم مركز الصدارة ضمن الرؤى الاقتصادية الجديدة لدول مجلس التعاون.
لم يعد الخليج مجرد وجهة لزوار الشتاء الباحثين عن الدفء أو مركزاً لأعمال النفط والغاز فحسب، بل تحوّل إلى مزيج فريد يجمع بين التجربة الفاخرة، والتكنولوجيا الذكية، والبنية التحتية المتطورة، والمشهد الثقافي المتجدد. ومع تصاعد وتيرة الفعاليات الصيفية والمؤتمرات الدولية، تدخل السياحة الخليجية عام 2025 بزخمٍ غير مسبوق، فاتحةً أبواباً واسعة أمام الاستثمارات، ومُشجعةً الاقتصادات الوطنية على مزيدٍ من التنويع الاستراتيجي.
أداءٌ تاريخيٌّ يُنبئ بمستقبلٍ سياحيٍّ واعد
تُشير الإحصاءات الرسمية الصادرة في مايو الجاري إلى أن قطاع السياحة في دول الخليج قد بدأ العام بأداءٍ فاق التوقعات. هذا الزخم مدعومٌ بإصلاحاتٍ تنظيمية كبرى، ومشاريع سياحية عملاقة، ومبادرات جذبٍ ذكية، تتوافق مع ارتفاعٍ عالميٍّ في الطلب على السفر نحو وجهاتٍ تقدم تجارب شاملة تمزج بين الرفاهية، والهوية الثقافية الأصيلة، والابتكار.
في المملكة العربية السعودية، قفزت حجوزات الإقامة للفترة الممتدة بين يونيو ويوليو بنسبة تتجاوز 35% مقارنة بصيف 2024. هذا الارتفاع مدفوعٌ بسلسلة مهرجانات ومواسم صيفية كبرى تستضيفها مدنٌ رئيسية كالرياض والطائف والعلا، فضلاً عن الاستعدادات الواسعة لاستقبال موسم الحج، والسياحة الدينية التي تشهد طفرة متجددة. وتُظهر البيانات أن مساهمة القطاع السياحي في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة قد ارتفعت إلى نحو 11.8% في الربع الثاني من العام، وهو مؤشرٌ واضح على التحول المستدام نحو اقتصادٍ متنوع الركائز.
أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد أعلنت “دائرة الاقتصاد والسياحة بدبي” أن الإمارة استقبلت 8.9 ملايين زائر دولي خلال الأشهر الأربعة الأولى من 2025. هذا الرقم يعكس وتيرة نموٍ متسارعة، مع توقعات ببلوغ عدد الزوار 20 مليوناً بنهاية العام. ويُعزى هذا الزخم إلى أجندة فعاليات عالمية ضخمة تشمل معرض “جيتكس غلوبال”، ومؤتمر “كوب 28 بلاس” (COP28+), إضافةً إلى النسخة المُطوّرة من موسم “صيف دبي”، الذي يعود هذا العام بحلّةٍ ترفيهية وثقافية غير مسبوقة.
المؤتمرات والمعارض: عاملٌ مضاعف للنمو السياحي ونوعية الإنفاق
تُمثل المؤتمرات والمعارض الكبرى أحد أبرز محركات النمو الجديدة للسياحة الخليجية، حيث تحوّلت المنطقة إلى مركزٍ دولي لأجندةٍ تمتد من الرياضة إلى التكنولوجيا والطب، ومن الابتكار إلى الطاقة. ففي السعودية، تنظم الرياض هذا العام أكثر من 50 مؤتمراً دولياً من الفئة الأولى، تشمل منتديات مالية رفيعة المستوى، وفعاليات طبية متخصصة، ومؤتمرات رياضية ذات طابع عالمي. في المقابل، تستثمر الدوحة رصيدها الكبير من الفعاليات الرياضية والثقافية لترسيخ مكانتها كمركزٍ إقليمي للمعارض واللقاءات الدولية.
وفي البحرين، تنطلق سلسلة مؤتمرات بحرية واستثمارية في المنامة تستمر حتى نوفمبر، ضمن خطةٍ طموحة تهدف إلى مضاعفة عدد الزوار لأغراض الأعمال بحلول نهاية العام. ويرى خبراء اقتصاد دوليون أن ربط القطاع السياحي بمواسم المؤتمرات بات “تحولاً استراتيجياً” بالغ الأهمية، فهو يزيد من متوسط إنفاق الزائر بنسبة تفوق 30% مقارنةً بالسياحة الترفيهية البحتة، ويُطيل من مدة الإقامة، ويخلق فرص عمل نوعية في قطاعاتٍ حيوية كالفنادق والخدمات والنقل.
استثماراتٌ ذكية لإعادة هندسة التجربة السياحية
لا تكتفي دول الخليج بجذب الزوار فحسب، بل تُعيد هندسة التجربة السياحية من الأساس. مليارات الدولارات ضُخت هذا العام لتوسعة المطارات، وتطوير مناطق الجذب البيئية والثقافية الفريدة، وتحديث شبكات النقل والفنادق. يتم كل ذلك مع اعتمادٍ مُتسارع لـ”التوأمة الرقمية” لتتبع حركة الزوار وتحسين مستوى الخدمة، ضمن إطار حوكمةٍ تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتحليلات التنبؤية لتقديم تجربةٍ مُخصصة وغير مسبوقة.
شركات الطيران الخليجية الرائدة، وعلى رأسها “طيران الإمارات” و”الخطوط الجوية القطرية”، أعلنت عن إضافة وجهاتٍ أوروبية وآسيوية جديدة، وتعزيز السعة المقعدية استعداداً لصيف 2025. يأتي هذا في وقتٍ تتزايد فيه الحجوزات الإلكترونية القادمة من أسواقٍ واعدة مثل دول آسيا الوسطى، وأمريكا اللاتينية، وشرق إفريقيا.
الوجهات الأكثر جذباً في صيف ومؤتمرات 2025
المملكة العربية السعودية: العلا، جدة التاريخية، الرياض، وجزر أملج.
الإمارات العربية المتحدة: دبي مارينا، جزيرة ياس، متحف المستقبل.
قطر: كتارا، متاحف الفن الإسلامي، مدينة لوسيل.
سلطنة عمان: صلالة، الجبل الأخضر، وادي بني خالد.
البحرين: ساحل الدراز، قرية الشرق، الرفاع.
تتسم هذه الوجهات بمزيجٍ فريد من الطابع التراثي العريق والتقنيات الحديثة، وتُعد نماذج حية على فلسفة “السياحة المتكاملة” التي تسعى دول الخليج لترسيخها كمعيارٍ عالمي جديد.
قفزاتٌ وتحولاتٌ كبرى في الإيرادات الاقتصادية
وفقاً لتقديرات اقتصادية صادرة هذا الشهر، يُتوقع أن تُحقق دولة الإمارات العربية المتحدة إيراداتٍ سياحية تفوق 58 مليار دولار هذا العام، بينما تصل التقديرات للمملكة العربية السعودية إلى 49 مليار دولار، وقطر إلى 17 مليار دولار. أما سلطنة عُمان فتشهد نمواً ملحوظاً بنسبة 24% في إجمالي إنفاق الزوار، وذلك بفضل الترويج النشط لمناطقها الطبيعية الساحرة والأنشطة البيئية المتنوعة.
تُعد هذه القفزات مؤشراً حاسماً على أن السياحة لم تعد قطاعاً مكملاً أو موسمياً في الخليج، بل تحوّلت إلى محورٍ استراتيجي في موازين الاقتصاد الوطني والخليجي، ورافعةٍ للنمو المستدام، وتوليد الوظائف، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
الخليج يرسم ملامح مستقبل السياحة العالمية
في ضوء هذه الديناميكيات المتسارعة، يبدو أن دول الخليج لا تسعى فقط لتعزيز مكانتها كوجهات سياحية رائدة، بل تهدف إلى قيادة مرحلة جديدة من “السياحة متعددة المواسم”. هذه المرحلة تدمج ببراعة بين الترفيه والعمل، بين المؤتمرات العالمية والفعاليات الثقافية، وبين البنية التحتية الذكية والهوية الثقافية العميقة.
ومع استمرار السياسات التحفيزية، وتكثيف الجهود الترويجية، واستكمال المشاريع العملاقة في قطاعات الضيافة والنقل، تبدو المنطقة على مشارف مرحلة جديدة، تُعيد فيها رسم خارطة السياحة العالمية، ليس فقط كمستقبِل للزوار، بل كـمُنتجٍ للتجربة ومُحددٍ للمعايير.