الوقوف في مزدلفة والمساواة بين المسلمين
بقلم : إبراهيم المحجوب – كاتب عراقي
في رحاب مكة المكرمة وأثناء أداء فريضة الحج ومع المناسك العظيمة يقف الحجاج في مشهد فريد يعكس صورة الإسلام بأبهى وأحسن المعاني الروحانية والإنسانية في آن واحد. ومن أبرز هذه المناسك هو الوقوف في مزدلفة كمحطة جامعة بين الخشوع والخضوع، بين الوحدة والمساواة بين صفوف المسلمين. إنه درس حي يتكرر كل عام مرة واحدة في ليلة مباركة واحدة يعيد فيها المسلمون وعيهم بمكانتهم وعلاقتهم بالله وبإخوانهم من أبناء البشرية جمعاء في مزدلفة… أرض السكينة والخضوع. وما أن تغيب شمس عرفة،
يفيض الحجاج من جبل الرحمة متجهين إلى مزدلفة، تلك البقعة المباركة الواقعة بين عرفات ومنى. يسيرون سعيًا خاشعًا، مرددين التلبية، ملبين نداء إبراهيم عليه السلام الذي بلّغه عن رب العالمين. يصلون مزدلفة فيجمعون فيها بين صلاة المغرب والعشاء، ثم يبيتون ليلتهم في سكينة وتأمل وذكر ودعاء.
هنا، في هذا المكان الهادئ المبارك بعيدًا عن صخب الحياة وهمومها، يقف الحاج بين يدي ربه، لا تفرقه عن أخيه المسلم لغة أو لون أو جنسية، ولا يفكر في مال أو منصب أو جاه. الكل تحت السماء سواء، يجمعهم الإيمان، ويوحدهم الهدف، ويتساوون في الرجاء والخوف والتذلل لله تعالى.
نعم، إنها المساواة الحقيقية في أجمل وأبهى صورها تتجلى في مزدلفة وأنت تشاهد المساواة التي ينادي بها الإسلام في أصدق صورها. فالحاج هنا يخلع عن نفسه كل مظاهر الدنيا، فلا لباس فخم ولا ألقاب تتقدم الأسماء ولا تميز اجتماعي أو سياسي، الكل يلبسون ملابس الإحرام.
ذلك اللباس الأبيض البسيط، الذي لا يُفرّق بين غني وفقير، ولا بين وزير وعامل، بل يُذكّر الجميع بكفن الميت، ليُعطي معنىً عميقًا لحقيقة الحياة وفنائها، وقيمة الإنسان عند ربه بما يحمله من تقوى وخشية، لا بما يملكه من مال أو جاه. وفي هذا المشهد العظيم نستحضر قول رسولنا الكريم محمد ﷺ في خطبة الوداع التي ألقاها في الحج:
”أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى.”
نعم، في مزدلفة، تتجلى وحدة الأمة الإسلامية في أبهى صورها. لا رايات قومية، ولا شعارات حزبية، بل نداء واحد يعلو من الحناجر: “لبيك اللهم لبيك…”
إن مشهد المساواة في مزدلفة ليس مجرد لحظة عابرة في موسم الحج، بل يجب أن يكون مبدأ يُترجم في حياة المسلم اليومية. فالمساواة التي يراها بعينيه، ويعيشها بنفسه، يجب أن تتحول إلى سلوك في تعامله مع الناس، في احترام الفقراء، ونشر العدل بين الناس، وفي نصرة المظلوم، أيا كان لونه أو جنسيته أو طبقته الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق، نستذكر أن الحج ليس رحلة عبادة فقط، بل رحلة تغيير وتجديد للوعي وبناء لروح جديدة تخرج من مزدلفة وقد فهمت درس المساواة وعاهدت ربها أن تعود إلى الحياة بروح جديدة بعيدة عن الجشع وأن أطماع الدنيا تحيا مع القيم السماوية التي رسمها الله لبناء البشرية الصحيحة والتي تعلمتها من هذه المشاهد العظيمة أثناء رحلة الحج وأثناء الوقوف على عرفات وأثناء المبيت في مزدلفة. هنيئًا لمن كبر ولبى، وهنيئًا لمن صام واستغفر، وهنيئًا لمن قابل ربه تائبًا يطلب المغفرة من رب كريم، وهنيئًا لنا جميعًا بهذا الدين العظيم، الدين الإسلامي الحنيف.