المواجهة بوابة التحرر من عقدة الخضوع
بقلم / د. ولاء قاسم
تأملات الفيلسوف سارتر في مقولته الشهيرة “الجحيم هم الآخرون” تدعونا لاستكشاف أعماق الذات والآخر والوجود. تعكس هذه المقولة الديناميات المعقدة للعلاقات، والصراع النفسي الذي يعيشه الفرد عندما يُحاصر بتوقعات الآخرين وآرائهم. يصبح الآخر جحيمًا عندما يُضطر الإنسان للانصياع لمعاييره ، متخليًا عن التعبير الحر عن ذاته.
إن علاقاتنا بالآخرين تشكل مرايا تعكس عمق حبنا واحترامنا لذواتنا . المحافظة على حقيقة الذات وأصالتها في العلاقات تعكس تقديرنا لأنفسنا، بينما التنكر لاحتياجات الذات وتفضيلاتها، والتحول إلى حرباء تتلون وفق شخصية الاخر و مزاجه ، يدل على عدم تقدير الذات وعدم الاستحقاق.
إذا كنت تعتقد أنه يجب عليك كسب حب الجميع، وأن تكون لطيفًا على الدوام ، فقد حان الوقت لتتحرر من قيود “عقدة الخضوع ” وهي عقدة نفسية شهيرة تكبل الكثيرين.
من خلال نظرة واقعية إلى الحياة، يمكننا أن ندرك أننا نعيش في عالم تسوده “إرادة القوة”، حيث يتمكن الأقوياء فقط من انتزاع حقوقهم في واقع يصبغ البشرية بالنفعية وعدم الاكتراث بالآخرين.
القدرة على المواجهة هي إحدى علامات القوة والشخص القوي محب لذاته يعرف كيف يحميها ويدافع عنها ويرسم الحدود حولها لذلك يكون محل احترام الاخرين و ينجذب الناس إليه عاطفيًا. بينما الشخص الضعيف، الذي ينقاد بلا حدود، يعيش على هامش الحياة، متجنبًا المواجهة، ويفقد نفسه في خضم ذلك.
للمواجهة درجات متفاوتة دعنا نستكشفها بمثال واقعي . تخيل أنك في مجلس، وسخر أحدهم من مظهرك ، وزنك أو هيئتك !
هنا، يمكنك أن تلجأ إلى “الدرجة السلبية” من المواجهة، حيث ترد بالموافقة على تعليق الشخص وربما تسخر انت ايضا من نفسك، وذلك أسوء درجات الخضوع.
أو قد تختار “الدرجة الصفرية”، التي تتمثل في الاكتفاء الصمت مع ابتسامة الحرج مما يجعل الموقف يمر وكأنه لم يكن.
لكنني سأدعوك إلى ممارسة درجات اكثر ايجابية من المواجهة ، “الدرجة الأولى” : ابتسم وأخبر الشخص أنك تفهم أنه لا يقصد الإساءة، ولكنك مقتنع بمظهرك.
يمكنك أن تتطور تدريجيًا إلى “المرحلة الثانية”، حيث تواجه الموقف بجدية اكثر مع اظهار تفهمك لحسن النوايا ثم توضح أنك لا تحب هذا النوع من المزاح .
أما في “المرحلة الثالثة”، تكون أكثر حزما ولا تحاول أن تبرر موقفه او تدعي فهمه و تخبره بشكل صارم أن هذا الأسلوب غير مقبول.
تتسم درجات المواجهة العليا بالهدوء والثبات؛ إذ تحافظ على هدوئك، تحدق في عيني الآخر، وتقول كلماتك بثقة وهدوء. فالمواجهة ليست مجرد رد فعل، بل تعبير صادق وأصيل عن احترامك لنفسك .
أحياناً نجد أنفسنا عاجزين عن مواجهة إساءة تعرضنا لها، وقد يبدو الموقف قد انتهى بالنسبة للجميع، لكننا نظل نعاني من تبعاته، نلوم أنفسنا ونشعر بالذنب لعدم دفاعنا عنها كما ينبغي. في هذه الحالة، لا بأس من اتخاذ خطوة مواجهة توضيحية متأخرة.
قد تبدو هذه المواجهة مخيفة بعض الشيء، إذ تعيد إحياء الألم و قد تحمل دلالات صدامية ، لكنها تمثل الطريق الأمثل للتعافي. من خلالها، يمكنك تحديد حدودك الشخصية والتعبير عن مشاعرك بطريقة ناضجة، مما يعكس قيمتك الإنسانية التي لن تتنازل عنها لأجل أي كان.
ستحتاج إلى تكرار هذه المواجهات المتأخرة لبداية التخلص من عقدة الخضوع، فمجرد الوعي بوجود العقدة وحده ليس كافياً. يحتاج الأمر إلى مواقف متكررة لتشكيل هذا الإدراك، لأن الإدراك وليد التجربة.
عندما تبدأ في فهم عقدتك، ستلاحظ أن عقلك يستخدم العديد من الحيل لثنيك عن المواجهة، مثل تصغير حجم الموقف وإقناعك بأن المواجهة ستجعلك محرجاً لأمر لا يستحق.
وقد يقوم بتضخيم ردود فعل الآخرين، مهدداً بأن المواجهة ستؤدي إلى قطع العلاقات. لكن عليك أن تدرك أن من يتخلى عنك بسبب حرصك على حدودك لا يستحق الوجود في حياتك.
وقد يخبرك عقلك بأن المواجهة ستفقدك صورة الإنسان الطيب التى تستمد منها شعورك الاستحقاق،
لكن تذكر دائماً: “الرجل الطيب هو الرجل الخطر الذي اختار أن يكون طيبا” – د. جوردان بيترسون.