مرئيات

لغة الصورة في القرآن الكريم.. سورة يوسف مثال لها

بقلم:إبراهيم شير-كاتب وإعلامي سوري

(الكتابة للصورة) هي أول قاعدة يتعلمها الصحفي خلال عمله في الإعلام المرئي، لأنه يخاطب مشاهداً يرى الصورة ولا يريد شرحها، ولكن يريد شيئاً يكملها ولا ينفصل عنها، مثلاً إذا حلقت طائرة حربية إسرائيلية فوق سوريا وبعدها سمع صوت آذان الفجر، الإعلامي الماهر الذي يجيد الكتابة للصورة يقول: “تخترق إسرائيل هدوء سوريا، ليخرج آذان الفجر لمواجهتها”. وهنا نحن نمتلك الصورة والصوت معاً، فكيف سيكون الوضع إذا لم يكن هناك صورة من الأساس؟

القرآن الكريم معجزة النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هو أول وأبلغ من تحدث بلغة الصورة، وسورة يوسف من أولها إلى آخرها عبارة عن تصوير فني قرآني ليوصل الفكرة كاملة للعالمين. في الآية الرابعة من السورة يحدث سيدنا يوسف أباه نبي الله يعقوب عن الرؤية التي رآها وهي أن احد عشر كوكباً والشمس والقمر قد وقعوا له ساجدين، وفي الآية التي بعدها يمنعه والده من التحدث بهذه الرؤية أمام إخوته حتى لا يكيدوا له، وهنا يظهر إبداع القرآن الكريم في رواية القصة هذه، حيث انه لم يرو لنا من قبل عن علاقة أبناء النبي يعقوب بأخيهم يوسف، ولكن بهذه الآية وضع لنا خلفية في مخيلتنا أو كما نسميها في الإعلام background عن العلاقة بينهم، ولكن ما سبب هذه الغيرة؟.

بعد حديث يوسف لأبيه ينتهي المشهد هنا في مخيلة القارئ، ويبدأ مشهد جديد وهو إخوة يوسف مجتمعين ويجيب الله تعالى عن السؤال الذي كان في خلفية مخيلتنا، بأن الغيرة من يوسف إنما هي بسبب أن أباهم يفضله عليهم. وهنا يكون إبداع اللغة التصورية حيث أن القارئ بدأ بتكوين الصورة في مخيلته وهو يقرأ القرآن وانسجم معه حتى النهاية. هنا ينتهي المشهد ويبدأ مشهد آخر، وكأنه فيلم تدور أحداثه أمامنا ونحن نقرأ، والمشهد الجديد هو مشهد اجتماع إخوة يوسف بأبيهم يعقوب حتى يقنعوه بأخذ يوسف إلى الصيد، وبالتالي يجيبنا القرآن بدون كلام عن سؤال هل وافق إخوة يوسف على اقتراح الجب وعدم قتله. خلال هذه الأحداث لم يكن في خلفية القارئ background تسائل لماذا أحب النبي يعقوب سيدنا يوسف؟ لأن سورة يوسف هي من السور المكية وتتميز هذه الصور بأنها تدعو إلى الفضيلة والتمسك بالخلق الرفيع وفعل الخير، وأتت أيضا بعد سورة الأنبياء أي أن القارئ تمت تهيئته لمعرفة الخصائل النبيلة للأنبياء والرسل، وبالتالي في العقل الباطن هناك معرفة لماذا أحب النبي يعقوب سيدنا يوسف.

بعد ذهاب سيدنا يوسف إلى مصر كان قادتها لديهم فراسة كبيرة في الرجال وهي طبيعة المجتمعات القوية، لأن الشخص لا يصل إلى منصب رفيع حتى يكون لديه ما يكفي من الفراسة والنباهة، لذلك عزيز مصر وجد في عيون سيدنا يوسف هذا الأمر، وهو ما فسره القرآن في لغته التصورية عندما قال في الآية 21 (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).

في الاية 23 يقول سيدنا يوسف لزوجة العزيز التي راودته عن نفسه: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وقال هنا ربي أي رب البيت الذي يسكن فيه ولم يقل سيدي الذي أحسن مثواي، لأن سيدنا يوسف لم يدخل في العبودية شرعياً، لأنه رمي في البئر قسراً ثم أخرج منه قسراً وبيع للعزيز قسراً بدون إرادته وما كان لنبي أن يكون عبداً لأحد غير الله، وبالتالي الكلمة الواحدة تغير المعنى والفكرة والبنية التصويرية في القرآن، وفي الإعلام جوهر عملنا هو الكلمة، مثل زعم وأكد وغيرها.

في الآية 25 من السورة نفسها نرى تجسيداً كبيراً للغة الصورية في القرآن الكريم وقال تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ). وبالتالي بني في عقلنا صورة أنه هرب منها حتى لا يقع في الفاحشة وهي جرت خلفه وسحبته فتمزق قميصه ولم تمسكه وهي أمور مبنية في خيالنا ونحن نقرأها، أي أن الكلام مبني للصورة في كل تفصيل، حتى نصل إلى (وأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ). وهنا الله قال سيدها وليس سيدهما، أي أن النبي يوسف لم يدخل في العبودية الكاملة لعزيز مصر والعزيز هو سيد زوجته ولم يكن سيد النبي يوسف. وهنا نلاحظ أن الكلام مرافق للصور ومعزز لها بكل تفصيل.

هنا ينتهي هذا المشهد ويبدأ مشهد آخر، وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً، وبين المشهد هذا والمشهد الآخر هناك أحداث يرسمها المرء في مخيلته مثل معاتبة العزيز لزوجته، وظلمه لسيدنا يوسف، وأحداث كثيرة تقع حتى يأتي الشاهد من أهلها ويقول: (شَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. 27 وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ). وهذه الأحداث جميعها مبنية في لغة الصورة في مخيلة القارئ وكأنها تحدث أمامه وفي الحقيقة هو لم يرها قط ولكن تخيلها بسبب هذه اللغة التصويرية.

سورة سيدنا يوسف كلها مشاهد فنية ويعجز المرء عن الحديث عنها وتقطيعها في مقال واحد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى