مرئيات

الاختصاص في قيام الحضارات

يتفاوت الناس في قدراتهم ومواهبهم وميولهم فمنهم من أوتي حظاً من الإبداع في جانب من المعرفة، ومنهم من اختار فناً أو عملاً معيناً أو جزئية من العلوم وأعطاها من الدراسة والتعمق حتى أصبح مختصاً فيها، بينما تطفل آخرون على جميع التخصصات ، ونصَّبوا أنفسهم من ذوي الإحاطة بجميع الأمور، دينية كانت أو دنيوية…

إن تجاهل الاختصاص من دواعي التخلف في المجتمعات المعاصرة، وهو من ضرورات المجتمع المتكامل، فالأمة التي قامت نهضتها على قواعد العلم والاختصاص كان لها السبق في ميادين الحضارة والرفعة، والأمم التي حادت عن ذلك تخلفت وتلاشت حضارتها واستحالت دوارس وذكريات…

وحتى عالم الحيوان أودع الله فيه من التخصص والانضباط ما يُدهش العقول ويسلب الألباب، ففي مجتمع النحل والنمل والطير وغيرها من الممالك التي أُلهمت بالفطرة تنظيم حياتها تنوع فيها الاختصاص مما جعل أفرادها في غاية الطاعة والانضباط، حيث تبدو تلك المجتمعات في توادها  كأنها جسدٌ واحد في تماسكه وترابطه..

وفي شريعة الإسلام وسنة النبي من الأدلة والبراهين على ضرورة الأخذ بهذا النهج لأنه سنة كونية وضرورة حتمية لبناء مجتمع متجانس يعرف فيه المرء ماله وما عليه فقد ذكر الله جل شأنه في كتابه المبين ما يؤكِّد هذا الأمر.

قال سبحانه وتعالى:  ‭}‬وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‭{‬ التوبة: 122) .

فقد دلّت هذه الآية على أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء، ولا أن يكون كلهم أيضاً مزارعين أو تجاراً …   وجاء في السنة ما يدل على أن الاختصاص ينبغي أن يرد إلى أهله وأن لا يتطفّل عليهم فيه، أو ينتزع منهم، وليس ذلك مختصًا بأمور الدين فحسب، بل حتى في أمور الدنيا كما قال النبي  في مسألة تأبير النخل: « أنتم أعلم بأمور دنياكم، وكقوله في حق الطب : «من تطبّب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن»، فالرسول هنا يعيد الاختصاص إلى أهله وهو في الوقت نفسه يحذِّر من التطفُّل عليه ، بل إنه يتوعَّد المتطفلين عليه بالمساءلة والمحاسبة، وحتى في حسن الصوت وجماله هناك تفاوت واختصاص، فقد أمر صلوات الله وسلامه عليه عبدالله بن زيد – صاحب رؤيا الأذان – أن يلقي ذلك على بلال لأنه أندى منه صوتًا.

ورُويَ عنه أنه قال : «أفرضكم زيد» أي: أعلمكم بالفرائض و«أقرؤكم أبُي» أي: أحسنكم قراءة للقرآن، ومعاذًاً أعلمُهم بالحلال والحرام، وأن خالدَ بن الوليد سيف الله المسلول، وثبت عنه أنه قال:  «يؤمٌّ القوم أقرؤهم لكتاب الله»  وهذا غيض من فيض ..

إن تعدي الإنسان على عمل ليس أهلاً له وليس من تخصصه  إنما يدفع بنفسه للفتنة والزلل ثم التهلكة فهذا أبو ذر الغفاري الصحابي الزاهد، الذي قال عنه النبي : «ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر» ، عندما طلب من النبي أن يوليه الإمارة ؟ قال له : « يَا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمانةٌ، وإنَّها يَوْمَ القيامَة خِزْيٌ ونَدَامةٌ، إلَّا مَنْ أخَذها بِحقِّها، وَأدَّى الَّذِي عليهِ فِيها « رواه مسلم

لقد تصدر اليوم الحديث في شؤون العامة من هب ودب وصارت وسائل التواصل الاجتماعي منابر لهم، فهذا يفتي في الدين وذاك يتحدث في الطب، وآخر في الأبراج والنجوم… ولم يترك أهل التطفل من علم إلا حشروا أنوفهم فيه دون أن يراعوا لهذه العلوم ومرجعياتها أي احترام لأنهم لاتحكمهم معايير علمية ولاضوابط أخلاقية  فجاؤوا بالغريب من الأفكار والمفاهيم المغلوطة ولبسوا على الناس  من أوهامهم وضحالة أفكارهم فضلوا وأضلوا.. ورحم الله الحافظ ابن حجر حيث قال: «ومن تكلَّم في غير فنه أتى بالعجائب».

د. موسى علي حمد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى