أدوات استشراف المستقبل المؤسسي: هوية البحث العلمي (2/3)

بقلم:د. فاطمة البلوشي - مؤسس ومديرة ديوان لبحوث واستشارات علوم القيادة

يحتاج استشراف المستقبل المؤسسي – واستشراف المستقبل عموما – سندا علميا قويا مما يعني الحاجة إلى تطوير كوادر وطنية وعربية متميزة بحثيا. فالمنطقة تمر في مرحلة دقيقة من تاريخها فالتغيرات كثيرة ومتتالية وتحتاج إلى تأريخ مؤصل علميا إضافة إلى التحليل العلمي الراسخ لدعم عملية هامّة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كاستشراف المستقبل. ولو أننا تقصينا تاريخ تطور البحث العلمي المعاصر لوجدنا أن أقوى منهجيات البحث العلمي قد تبلورت في مراحل مماثلة من تاريخ أوروبا والغرب عموما، وهي تحديدا المراحل الأخيرة والتي تليها من الحرب العالمية الثانية. فهذه حقبة شهدت هجرة كثير من العلماء والمفكرين من مناطق الحرب المباشرة إلى غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ومنها كان بدايات ريادة تلك الدول لمضمار البحث العلمي حتى وقتنا الحالي.
وتأصيل هوية البحث العلمي كأداة مهمة في استشراف المستقبل مشروع يستحق التوقف والدراسة لما قد تحمل من تأثير إيجابي على جودة النتائج البحثية ومصداقيتها. والهوية كما يصفها بعض الباحثين مفهوم “مراوغ” بمعنى أنه عصي على الباحث دراسته ولا بد من التعامل معه بحذر لأنه مفهوم متقلب وحمّال لأوجه عديدة بحسب وجهات النظر المختلفة. ولتدارك ذلك يلزم من الباحث تحديد أهداف الدراسة المعنية والسياق المراد فيه دراسة الهوية، فهل مثلا يقصد بالهوية في دراسته الهوية الاجتماعية أو الهوية الدينية، أو الهوية المهنية؟ وهناك الكثير من البحوث العربية حول الهوية ولكن يغلب عليها أنها محصورة في فهم إشكاليات هوية الفرد، وقلّما توسعت الرؤية البحثية العربية الحالية في فهم هوية المجموعة باستثناء دراسة الجماعات المتطرفة إيديولوجيا والتي شهد عصرنا بزوغ العديد منها.
والمراد بالهوية في سياق حديثنا هنا هوية البحث العلمي بمعنى المنهجية العلمية التي ينتهجها الباحث في دراسته والتي تشكل لا فقط أدوات بحثه العلمي بل أيضا قيمه وأخلاقياته وهويته كباحث. فالباحث العلمي المتمكن صاحب حضور شخصي في بحثه لا من حيث انعكاس رؤاه الشخصية على نتائج البحث وإنما من حيث تمكين هذه الرؤى لصقل أدوات ومراحل بحثه. وسواء في ذلك مراحل البحث الأولى حيث تصاغ الأهداف ومحل البحث وأفراده أو المراحل التالية حيث تصاغ وتطبق منهجية جمع المادة وتحليلها واستخلاص النتائج. وهذه منهجية تتوافق وقوة الدور المأمول لاستشراف المستقبل في تنمية المؤسسات والمجتمعات عموما، وهي تتوافق أيضا مع مدرسة فكرية متصاعدة بقوة في الغرب وتسمى بالمدرسة الانعكاسية ومن روادها في علوم الإدارة البحّاثة السويدي الشهير “مات ألفيسون”.