كوباياشي كوجي..مهندس صناعة الكمبيوتر وثورة الاتصالات والمعلوماتية
بقلم / الدكتور محمد الأمين البشرى*
كوباياشي كوجي كان من أوائل الرجال الذين تنبأوا بمستقبل المعلوماتية وأهميتها المتوقعة مع تطور الاتصالات وتقنيات الحاسب الآلي: لذا عمل كوباياشي على تحويل الشركة اليابانية للكهرباء NEC من شركة صغيرة متخصصة في صناعة الهاتف وأجهزة الإرسال إلى شركة عالمية عملاقة في مجال الكمبيوتر.
ولد كوباياشي كوجي في 17 فبراير 1907 في قرية هاتسوكاري الواقعة على بعد (80) كيلومتراً غرب طوكيو. كان كوباياشي الطفل الرابع من تسعة أشقاء ولدوا من والدهم المعلم ووالدتهم ابنة تاجر الحرير. كان كوباياشي يعمل في صغره بصيد السمك وكان مجتهداً في دروسه. كانت مدرسته الإعدادية بعيدة عن مسكنه، لذا كان يقرأ الكتب الإنجليزية في الطريق حتى أصبح يجيدها. كسب كوباياشي منحة دراسية في ماتسموتو المدينة المجاورة لناقانو. ثم نجح في دخول جامعة طوكيو عام 1926. أمضى كوباياشي وقتاً طويلاً درس ذبذبات الإذاعة وهندسة الضغط العالي. بعد تخرجه في عام 1929 التحق كوباياشي بالعمل في شركة أن.إي.سي. التي أنشئت عام 1899.
تزوج كوباياشي عام 1938 ، وفي نفس العام كتب رسالة الدكتوراه حول الطاقة الاسترجاعية السالبة للأمبليفاير ، وحصل على درجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية من جامعة طوكيو. إبتُعث كوباياشي إلى ألمانيا والولايات المتحدة للاطلاع على التقنيات الحديثة ، اندهش كوباياشي عندما وجد أن المحادثات الهاتفية طويلة المدى تتم في أمريكا خلال دقائق بينما يستغرق الحجز لمكالمة بين طوكيو وأوساكا يوماً كاملاً. بعد عودته من أمريكا كُلف كوباياشي بإقامة خط هاتفي لربط اليابان بكوريا ومنشوريا وكذا بين طوكيو وأوساكا مما اعتبر أطول خط في تلك الأيام. في عام 1939 عين كوباياشي نائباً لمدير مصنع أن.إي.سي. للمعدات الحربية. وأصبحت الشركة تنتج للجيش كافة أدوات الاتصالات استعداداً للحرب العالمية الثانية.
بعد نهاية الحرب عانى كوباياشي من الجوع والمرض. تراجعت أعمال الشركة التي اضطرت إلى الاستغناء عن (12) ألفاً من عمالها. ولكن عادت الشركة إلى الحياة عام 1952 عندما بدأت تنتج أجهزة الهاتف لوزارة الاتصالات. ثم نشبت الحرب الكورية وقامت الشركة بتزويد الجيش الأمريكي بكميات كبيرة من أجهزة الهاتف والإرسال في الستينات ؛ استحدث كوباياشي نظام الميكرويف وتمكن من ربط معظم المدن اليابانية بالخطوط الهاتفية المباشرة. اليوم أصبحت شــركة أن.إي. سي رائدة في مجال الميكرويف إذ قامت بتركيب أنظمتها في أكثر من (80) دولة.
بعد اكتشاف شركة سوني للترانزيستور اتضح لكوباياشي إمكانية تطوير صناعة الكمبيوتر. دخل كوباياشي في اتفاق مع شركة “هونيول” الأمريكية للاستفادة من تقنياتها في تطوير صناعة الكمبيوتر . وسرعان ما أصبحت شركة أن.إي.سي ثاني أكبر منتج للكمبيوتر في اليابان، بعد IBM اليابان.
في نوفمبر 1964 أصبح كوباياشي رئيساً لشركة أن.إي.سي. وكانت الشركة وقتها قد دخلت مجال بناء المحطات الأرضية ومحطات التلفزيونات الفضائية. حيث كانت أولمبياد طوكيو عام 1964 بداية البث الخارجي عبر المحطة التي شيدتها الشركة.
تتمثل أهم إنجازات كوباياشي في مشروعه لصناعة الـ chip الشريحة الإلكترونية electronic chip في الستينات. والـ chips لا تستعمل في الكمبيوتر فحسب بل أمكن استخدامه في أغراض أخرى عديدة. في البدء أنتجت شركة أن.إي.سي كمبيوترات استخدمت فيها “شبس” “أمريكية” ولم تُحقق النجاح المطلوب. وفي ضوء ذلك قرر كوباياشي إنتاج الـ “شبس” الياباني electronic chip – الشريحة الإلكترونية. وكان ذلك مكلفاً ، لأن صناعة “الشيبس” صناعة دقيقة وتحتاج إلى أماكن نظيفة ومحكمة البناء. كما قرر كوباياشي صناعة كمبيوترات لا تتلاءم مع أي.بي.إم خوفاً من تعرضها للخسائر من جراء تعديلات الـ آي بي أم ولتحقيق ذلك قام كوباياشي ببيع معامل أبحاث الطاقة النووية ، ليحصر نشاط الشركة في الاتصالات والكمبيوتر وملحقاتهما. في عام 1972 بدأت أن.إي.سي في صناعة الحاسبات الصغيرة. وبذل كوباياشي الكثير في تطوير أشباه الموصلات “Semiconductors” رغم الركود الاقتصادي الناجم عن أزمة البترول في عام 1973. لم يتعجل كوباياشي الحصول على عائدات حتى كان عام 1974 حيث أصبحت شركته أكبر منتج لأشباه الموصلات
“Semiconductors”.
قام كوباياشي بإنشاء مصانع في كاليفورنيا، البرازيل، ماليزيا، المكسيك وسنغافورة. ثم بدأت التقنيات العالية للكمبيوتر والاتصالات تتقدم سريعاً، وفي أكتوبر من العام 1977، ألقى كوباياشي محاضرة في معرض الاتصالات بأتلانتا أكد فيها تنبؤه بمستقبل الكمبيوتر والاتصالات.
في عام 1980 افتتحت شركة أن.إي.سي مختبرات جديدة للـ software والإلكترونيات البصرية. كانت الأبحاث العلمية للشركة تنال 10% من عائدات الشركة. وكان كوباياشي يعتبر الأبحاث العلمية ضرورية ، ليس لتطوير المؤسسة فحسب ، بل هي ضرورية أيضاً لبقائها في السوق. بعد سنوات من الأبحاث ، تمكنت الشركة من بناء دائرة الهواتف البصرية في فلوريدا. ومن ثم بناء نظام متكامل من البصريات Fiber Optical في بوينس آريرس، وبذلك أصبحت الشركة الأولى في العالـم في هذا المجال. أما في مجال الـ VLSI ( Very-large-scale
Intigrated circuits )
فقد واصلت شركة أن.أي.سي أبحاثها حتى قامت الحكومة اليابانية بتكليف الشركات اليابانية الرئيسية (فوجيتسو ، أن.إي.سي ، هيتاشي ، توشيبا ومتسوبيشي) بالعمل معاً على تطوير VLSI، وقدمت لهذه الشركات (43%) من التكلفة. وبالفعل تمكنت الشركات من تطوير “شبس” بذاكرة ( 256 ) كيلو بايت في عام 1980 ، وقد ساعد ذلك شركة أن.إي.سي على تطوير جيل جديد من الكمبيوترات الضخمة، الأكثر سرعة وقوة. وبحلول عام 1984 كانت أن.إي.سي ترخص للشركة الأمريكية “هوني ويل” التي كانت تزودها بالتقانة في البداية للعمل بابتكاراتها التقنية.
في عام 1976 ، استحدثت أن.إي.سي أسلوب اصنع بنفسك للكمبيوترات الشخصية. فكانت فرصة للطلاب وصغار الموظفين للحصول على كمبيوتر شخصي بمبلغ (400) دولار فقط. ثم دخل كوباياشي في إنتاج الكمبيوتر الشخصي في عام 1979 وامتلك (50%) من السوق المحلي خلال فترة قصيرة. تقاعد كوباياشي بعد أن بلغ الثمانين ، ومع تقاعده تعرضت شركته لخسائر كبيرة خاصة في عام 1990، إلا أنها استعادت مكانتها في عام 1993. شاركت أن.إي.سي بعد ذلك مع “باكارد بل” في تشكيل قوة في مجال الكمبيوترات الشخصية.
في نوفمبر 1996 ، كلف كوباياشي علماء شركة أن.إي.سي باكتشاف هاتف يترجم مباشرة المكالمات من وإلى اللغة اليابانية والإنجليزية بحلول عيد ميلاده المائة ، أي في عام (2007). وسواءً تحقق هذا الحلم الصعب أو لم يتحقق في عام (2007) فإن النظرة المستقبلية لكوباياشي حققت للملايين الهاتف المباشر ، بالصوت والصورة الواضحة عبر التليفزيون ، الاستلام الفضائي ، الحاسبات الإلكترونية ومداخل التقانة العالية للاتصالات والمعلوماتية.
*الأستاذ الدكتور محمد الأمين البشرى محجوب
باحث في الشؤون اليابانية