عندما ابدأ الحديث عن الأزمات الأسرية قد تستقبلني بابتسامة تحمل المرارة وتنهيدة تشي بكثافة رد الفعل الوجداني ، فقد تتذكر لحظات انكمشت فيها على نفسك وكأن الجدران تحميك من وقع الصدمات ، ولحظات أخرى خرجت فيها الى الطرقات كصرخة في وجه الألم تبحث عن حلول في وسط تعمه الفوضى .
تتنوع خارطة المخاطر التي تتعرض لها الأسرة ما بين الداخلية ذات الأسس البنيوية وبين الخارجية كالأزمات الصحية والأمنية والاجتماعية والثقافية وأحياناً قد تتقاعل مع بعضها لتفرز أزمات طاحنة تهدد تماسك كيان الأسرة وحسن قيامها بوظائفها .
ويبقى السؤال كيف يمكننا مواجهة تلك التحديات واستعادة توازننا ؟؟!
يشكل التفكير الإيجابي والتفاؤل المكتسب الثنائية الأبرز في مشروع إدارة الأسرة وتمكينها ، وتلعب تلك الثنائية دوراً حيوياً في مواكبة قضايا الأسرة الداخلية وما يترافق مع مراحلها المختلفة من التحديات، والتعامل مع المحيط والإستفادة من فرصه وموارده وتوفير الحلول الواعية للمعوقات ، فكل علاقة زوجية وأسرية لا بد أن ترتكز على قاعدة من التفكير الايجابي وما يتضمنه من آفاق للتفاؤل والأمل ، تفاؤل لا يقتصر على الرجاء بالخلاص والسكون في انتظار الفرج ، بل تفاؤل مستنير بعيون المفتوحة على الواقع وتحولاته ومتطلباته.
الوعي واليقظة الذهنية هما أول مقومات التفكير الإيجابي حيث أن النظر الى الأزمات على أنها مجرد أحداث سيئة هو تصورٌ مجتزأ لشمولية الحياة التي تتداخل فيها الأحداث ، فكل حدث له مكانه ووظيفته ضمن الواقع الشامل الذي يتجاوز ظاهر الأشياء ، فخلف كل تسلسل للأحداث ظننته فوضوياً أو عشوائياً يتكشف نظام وهدف أعلى .
” يجب ألا أتألم ” ويجب ” ألا يتألم أطفالي ” فكرة مضللة تهوي بك في قاع الألم ، شعور الألم في الأزمات أمر طبيعي بل أحياناً يشكل محطة تأخذك نحو عمق التجربة بدونه قد تظل سطحيا متماهياً مع البعد المادي للحياة ، المهم ألا يتملكك الذعر ، وأن تستغل نار الكوارث وحرارتها لإعادة صقل قِواك وزيادة التحامك مع أُسرتك ، فعندما تتقبل الألم الشخصي وتعترف بوجوده بطريقة واعية يحصل التحول من نار الألم إلى نور الوعي .
من الجيد أن تبدأ مواجهة الأزمة بشكل استباقي ، فيجب على أرباب الأسر التسلح بالوعي لمراقبة الذات وأفراد الأسرة والمحيط ورصد الأحداث والتغيرات المهمة والتيقظ والانتباه للعلامات التحذيرية التي تسبق الأزمة فمن الفِطنة وجود الاستعداد وقد يحالفك الحظ وتستطيع تعديل المسار أو تغيره لتلافي الأزمة.
عندما تواجه أنت وأسرتك أي أزمةٍ حافظ هلى هدوئك ورباطة جأشك ، تنفس بعمق واملأ صدرك بالأوكسجين لتتمكن من التفكير ، ثباتك الانفعالي له تأثير السحر على بقية أفراد أسرتك فصوتك سيصبح موسيقى هادئة تسكب السكينة في قلوبهم المضطربة وسيشعرون أن العاصفة مهما اشتدت لن تتمكن من اقتلاع جذورهم .
أحرص على رفع مستوى العلاقة الأسرية فوق مستوى اللوم والهجوم الشخصي فالتفاف أفراد الأسرة حول بعضهم أهم الركائز لتجاوز الأزمة التي يجب أن نواجهها بأذرع متشابكة وقلوب تتكيء على بعضها ، ففي خِضم ذلك المد الإنفعالي إذا تعالت الأصوات وسارعنا بالقاء اللوم على بعضنا سوف نفقد التعايش السلمي في الأسرة وينفرط عقدها الفريد .
من المهم المحافظة على الأنشطة الروتينية والطقوس المعتادة فذلك يهديء الأسرة ويحافظ على ثباتها ، وكن صبوراً في الاستماع الى اسئلة الصغار واستفساراتهم فطفلك أيضاً يحاول أن يتلمس طريقة وسط ظلام عدم اليقين، وبالتواصل الجيد والاستماع النشط يشعر الطفل أن والديه وأفراد أسرته سيبقون الميناء الآمن بالنسبة إليه.
من المهم تنشيط اليقظة الذهنية وسط همهمات القلق التي تبدأ بالتصاعد في الزوايا المظلمة من العقول ، اليقظة تساعد في الانفتاح على الجديد في المحيط وسياقاته والتفكير بالبدائل متجاوزين الرؤى الراهنة والواقع الآني ، أَبقي كل الإمكانات مفتوحةً، وسع خياراتك واستعن بكل الأدوات والمصادر ،عندها ستعثر على حلول ومخارج جديدة ولن تقع أسرتك فريسة قوالبها الذهنية الجامدة والسائدة .
وأخيراً أبحث عن معنى وراء معاناتك ، ففي خضم الألم تتكشف جوانب مضيئة من أنفسنا وأحبتنا لم ندركها من قبل وقد نبدأ بإعادة تقيم أولوياتنا ونراجع القيم الحقيقية التي نحيا لأجلها، و عندها لن تكون الأزمات عقبة ، بل جسراً يعبر بنا نحو فهم أعمق لذواتنا واحبتنا ، وإذا لم تدرك معاني واضحة ” لا تبتأس” لأنك عندها ستتعلم كيف تعيش مع الأسئلة موقناً بوجود الإجابات وتكشفها يوماً ، وستتعلم كيف تحتضن غموض الحياة وتحتفي بالألم كجزء من رحلة النمو نحو الحكمة .