صراع التحرر والتطرف
بقلم / د. ولاء قاسم
إن تساوي البشر في القيمة والكرامة وحق تحقيق الذات أمر لا نقاش فيه ، ولكن صرخات الحرية والمساواة أصبحت تحمل دلالة على إنكار الاختلاف بين الجنسين وذلك ما نخشاه !!
حركات التحرر النسوي التي يفترض أن تجعلنا نزهو ونفخر بانتمائنا لهذا الجنس البشري ، أصبحت تدفعنا نحن السيدات الى المطبخ لنعد أي طبخةً نثبت بها لأنفسنا أننا لسنا من ذلك النوع المتحرر من السيدات ،
الذي ينبذ ماهو جوهري في مشاعرنا الإنسانية لصالح نموذج مبتذل ومسار غير ناصج يمثل حرية عقلانية غامضة .
نحن جميعاً نعيش صراع تحقيق الذات ، لكني واحدة من السيدات اللواتي يشعرن بامتنان عميق لأنهن في خضم السعي الحثيث نحو الفِكر والمعرفة لم يفقدن اتصالهن بالمرأة في الداخل ، فمشاعر الأمومة البسيطة المرِحة لا تقود إلى ضمور الذهني ، ومشاركة طفلك لعبه ومشاهدة العالم بعينيه لا تتعارض مع تدوين ملاحظات حول كتاب أو مقال قادم ، فخزانات الطاقة والإبداع قابعة في أعماقنا بالفعل تنتظر بعض التأمل وأن تستنشق الهواء وتسقى بالماء ( على الصعيد النفسي ) حتى تنبثق أزهاراً بل وأشجاراً مثمرةً.
في هذا العصر التكنولوجي اضطررنا إلى ممارسة نوع من هدم الذات لنثبت أننا مخلوقات قاهرة تستطيع العيش بين الخرسانة والزجاج دون منافذ إلى الطبيعة، ويبدو أننا قد نضطر أيضاً الى تحيِّد اختلافاتنا الجنسية مما قد يدفعنا إلى لحظة نتساءل فيها لماذا نتوالد وربما لماذا نحيا من الأساس ؟!!
التقليل من شأن الأمومة والتربية وتهميش الإحساس الغريزي بالاحتضان لدى النساء ومايحققه من إشباع نفسي عميق ومقابلة كل ذلك بمشاعر العدوانية والطموح الحاد ليست أقل جرماً من أن تُختزل المرأة في دور الامومة ويعُتبر أنها لاتصلح إلا ذلك .
تأنل معي مشهد امرأة وصلت الى منتصف العمر وكان المنزل يمثل العمود الفقري لنشاطها ، والآن، مع انقطاع الطمث ومغادرة الأطفال، تعاني متلازمة “العُش الخالي” ، تحولات جسدية ونفسية تؤثر عميقاً على مشاعرها ، و في خضم هذا التخبط العاطفي وحالة عدم اليقين ،و بدلاً من اكتشاف منافذ جديدة لتحقيق الذات ، تجد نفسها في مواجهة مع أفكار التحرر النسوي، التي تثير الشكوك حول قيمة ماضيها ومعنى أن تكون امرأة منذ الميلاد وحتى الممات ، لذلك تشعر العديد من النساء أن مناخ الغضب والاستياء الذي تقيره تلك الشعارات هو هجوم شخصي على حياتهن.
لكن على الرغم من أننا نعرف يقينا أن المرأة تزدهر بإحتضان أطفالها وتتوق للرعاية والطمأنة من رجل يستلم زمام الأمور في حياتها عندما تتأزم الأوضاع ،
لكن هذا لا يجب أن يقود لتطرف آخر تكتفي فيه المرأة بالحقيقة البيولوجية وتصر طواعيةً على نكران للذات يقودها للقنوط فتحصر حياتها في زوج وأطفال وتبيع روحها لأجلهم فتصل في خريف العمر واحيانا قبله إلى مرحلة تعتريها فيها رغبة عارمة في ضبط وتوجيه حياة الآخرين حولها نتيجه لتلك الاحتياجات والطموحات المجهضة .
ومن وجهة نظر التحلل نفسي المرأة التي تشعر بالحزن والاكتئاب بسبب شعارات التحرير هي اساسا تشعر بالحرمانية في داخلها لكنها كانت تقيم أسواراً دفاعية لتحمي نفسها من تلك المشاعر المزعجة ، فعندما لا تقبل المرأة دورها في استقبال الحياة وتربية الصغار تصبح ” ساخطة ، قلقة ،متعجلة ” لذلك أصبحنا نلمس نفاذ صبر الأمهات تجاه الأطفال فقد اصبحن يبحثن عن طرق لتسريع النمو دون احترام لتلك المعجزة ، فالطفل يجب أن ينشأ في جو من المثيرات المحببة ويخطو بتمهل في دورةِ النمو حتى يمتلك الأدوات والمهارات الضرورية لينفتح على المحيط .
ليت حركات التحرير تحرر المرأة من صناعة التجميل التي خلقت رعبا حول معنى الجاذبية لمن لا تستطيع اقتناء منتجاتها لأنها لن تستطيع اللحاق بركب شبيهات عروسة ” الباربي” ، في حين أن المطلوب منا كسيدات تجاوز الوعي الدعائي والإصرار على أن الأنوثة كينونة تزهر من الداخل ، ويمكن ان تحتويها كل الأحجام والأشكال والأعمار وألوان البشرة والشعر .
وأخيراً سيدتي تذكري أنك لست بحاجه لتلك النبرة العالية والمتعالية ولتلك الصراعات والضغوط
لأنك كنت حرة قبل أن تظهر هذه الشعارات الى الوجود ، فقط عليك تبني الطريقة الوقورة الهادئة التي تَسكُن بها الإناث الى الحقائق في الوجود ، علينا جميعاً أن نبذل جهوداً في فحص الذات ومراجعة الخيارات ، حتى لو بغلت منتصف العمر فهناك متسع الوقت وأنت في ذروة النضج لإعادة تعريف ذاتك للعالم ، فكوني جسورة في البحث عن ينابيع هويتك ،
المهم هو ( ما تكونيه ) وليس ( ما تفعليه )
أنت امرأة “وعاء حاضن للحياة يشهد بزوغها” .