مرئيات

من غريزة الغاب الى استنارة الحب

بقلم / د. ولاء قاسم

زمن رقمي متسارع، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال، يبقى الزواج لغزًا بشريًا عميقًا، ينسج توازنًا بين الغرائز الأولية والسمو الروحي.

منذ فجر الحضارة، سعى العلماء والمفكرون إلى فك أسرار هذه الرابطة، وقسموها إلى مراحل تطورية تعكس درجات الوعي والنضج العاطفي لدى الشريكين. هذه المراحل ليست مجرد إطار نظري، بل خارطة تساعد في رسم مسار يحول الزواج من شرارة مؤقتة إلى اتحاد مستدام يغذي النمو الشخصي والجماعي.

مستندة إلى أبحاث علم النفس والأنثروبولوجيا، مثل تلك التي قادتها هيلين فيشر في دراساتها حول مراحل الحب البيولوجية، وجون غوتمان في تحليله لديناميكيات الزواج الناجح، أود الغوص في هذه المراحل بتحليل علمي يتجاوز السرد الشاعري، لنستكشف كيف يمكن للزواج أن يتجاوز التحديات ويصبح مصدر قوة وإلهام.

تنطلق رحلتنا من أغوار الغابات الأولى، مع ما يُطلق عليه “زواج إنسان الغاب”، حيث يُبنى الاتحاد على شرارة انجذاب جسدي عنيف، يجتاح الجسد مربكًا اتزانه.

بحسب دراسات علم الأعصاب، يدوم هذا الانجذاب من لحظات قليلة إلى عامين تقريبًا، مدعومًا بتدفق هرمونات مثل الدوبامين الذي يولد النشوة، والأوكسيتوسين الذي يعزز الارتباط الأولي، ويغمر الدماغ بإحساس يشبه الإدمان.

لكن، كما ينطفئ لهيب النار في غياب الأوكسجين، يخفت هذا الانجذاب تدريجيًا، ممهدًا الطريق للمشاكل والصراعات. فيصبح الصياح والعراك رفيقًا يوميًا، إذ يفتقر هذا النمط إلى أساس متين من التوافق الفكري والنفسي لدى الشريكين.

في هذا النوع من الارتباط، تبرز أهمية تعلم مهارات حل الخلافات، مثل التواصل الفعال وإدارة الغضب، وحتى اللجوء إلى انفصال مؤقت كوسيلة لتقليل الخسائر. غالبًا ما يظل هذا الزواج مهددًا بالانهيار، إذ يتنقل أصحابه بين علاقات سطحية، عاجزين عن الالتزام طويل الأمد، كأنهم طيور مهاجرة لا تستقر في عش ثابت . هذا الشكل من الزواج يذكرنا بأن الجسد وحده لا يكفي لبناء علاقة حقيقية، لأن العلاقات تحتاج إلى أعمدة من الوعي.

ورغم تقدم البشرية عبر العصور وتطورها الحضاري والتكنولوجي، لا يزال الكثير من الأفراد ينظرون إلى الزواج بنفس النظرة البدائية لإنسان الغاب، المرتكزة حصرًا على الانجذاب الجسدي السطحي، مما يعيق الوصول إلى مراحل أعمق.

مع تطور الوعي الإنساني، لجأ بعض الناس إلى ما يُسمى بـ”زواج إنسان القبيلة”، حيث تذوب الهوية الفردية في بحر الجماعة. هنا، يضحي الشريك بأهدافه الشخصية لصالح استمرار العلاقة، كما لو كان يغرق في نهر يجرف كل ما هو فردي.

في هذا الشكل من الارتباط، هناك احتمالان رئيسيان: إما أن يفقد أحد الطرفين هويته، متبنيًا دور التابع أمام الآخر المسيطر، مما يخلق توازنًا هشًا مبنيًا على الخضوع؛ أو يتحول الاثنان إلى كيان واحد، يتجنبان التوتر بأي ثمن، مهملين احتياجاتهما الفردية.

قد يبدو هذا النمط مثاليًا ظاهريًا، لكنه يتطلب التزامًا تامًا بأدوار محددة، وجهدًا مستمرًا لمكافحة الملل والرتابة. تشير الدراسات النفسية إلى أن هذه الدرجة من الانصهار قد تؤدي إلى فقدان الذات، مما يجعل الانتقال إلى مرحلة أعلى ضروريًا لتجنب اختناق الشخصية وذوبان الهوية الفردية.

ثم يأتي “زواج الإنسان المستقل”، مرحلة تنيرها شمس الحرية النفسية. هنا، يشعر كل شريك باستقلاله، دون محاولة السيطرة على الآخر. لكل منهما اهتماماته الخاصة، وأصدقاؤه، وأنشطته التي يمارسها بعيدًا عن الشريك، مما يوفر خصوصية وتوافقًا مع الأهداف الشخصية.

هذا النمط يعزز الاحترام المتبادل والتقدير للاختلافات، كما لو كان حديقة مزروعة بزهور متنوعة تتعايش دون أن تطغى إحداها على الأخرى. ومع ذلك، يحذر العلماء من مخاطر الاستقلال الزائد، الذي قد يولد بعدًا عاطفيًا نتيجة ندرة الأوقات الحميمية والأنشطة المشتركة بين الزوجين.

الحل يكمن في خلق اهتمامات مشتركة، مثل السفر أو الهوايات الجماعية، لتعزيز الروابط. يرى الخبراء أن الزواج المثالي يجب أن يكون توازنًا بين روح القبيلة والاستقلال، الذي يتمثل في المرحلة التالية.

في ذروة التطور العاطفي والنفسي، يتربع “الزواج المستنير”، حيث ينسج الشريكان لوحة فنية نادرة. الزواج هنا ليس مجرد رابطة بين شخصين، بل رحلة عميقة تستوعب الشريك بكل أبعاده: أدواره الاجتماعية، تجاربه الماضية، حلمه المستقبلي، وواقعه الحاضر. كأن كل طرف يحمل بين يديه كتاب حياة الآخر، يقرأ صفحاته بحنو، يتأمل فصولها بعمق، ويتعاطف مع محطاتها المختلفة.

هذه المرحلة تتجاوز حدود العلاقة التقليدية، لتصبح شراكة روحية تتغذى على الفهم المتبادل والاحترام العميق. كلما تعمق هذا الارتباط، ازدادت جودة الحوار، وتعرى الشريك أمام شريكه من كل الأقنعة بشفافية عميقة، لكن هذا الانكشاف الكامل لا يقود إلى الملل أو الرتابة، فالإنسان المستنير في حالة تطور وتجدد مستمر.
في هذه المرحلة، يحتفي كل طرف بتفرد الآخر في توازن راقٍ بين الاستقلال والاندماج، يجعل الزواج المستنير ليس مجرد رباط، بل رحلة إنسانية مبهرة.

في الختام، الزواج رحلة ديناميكية نابضة بالحياة، تتشكل بالوعي والحب، الذي يعززه التواصل العميق والتعاطف الصادق. في زمن تتزايد فيه الانفصالات، يبقى فهم هذه المراحل مفتاحًا لعلاقات تزخر بالمعنى. فلنعانق هذه الرحلة بقلوب مفتوحة، متطلعين إلى استنارة الحب التي تثري الحياة ولا تعيقها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى