وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرج قال المحلل السياسي أندرياس كلوث إنه بمجرد تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد سواء كان المرشح الجمهوري دونالد ترامب الرئيس السابق للولايات المتحدة أو منافسته الديمقراطية كامالا هاريس يوم 20 كانون الثاني/يناير المقبل، سيكون عليه فتح ملف لا يفضل الناخبون التفكير فيه ونادرا ما يتطرق إليه المرشحان وهو كيفية تجنب الدخول في حرب نووية مدمرة للعالم. وكما كان الحال أثناء الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي يتعلق القرار الأهم بما إذا كان علينا الدخول (او محاولة الفوز) في سباق للتسلح النووي مع أعداء أمريكا المستبدين أو إجبارهم على القبول بالحد من التسلح.
ويقول كلوث رئيس التحرير السابق لصحيفة هاندلسبلات الألمانية إن إلحاح هذا الملف الآن ينبع مع عدة معضلات أولها انتهاء آجل معاهدة نيو ستارت للحد من التسلح بعد عام واحد فقط من تدشينها، وهي المعاهدة الوحيدة التي تبقت من مجموعة معاهدات الحد من التسلح النووي بين الولايات المتحدة وروسيا. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين علق العمل بالمعاهدة في العام الماضي لكنه لم ينتهك شروطها حتى الآن. فهذا الغموض أصبح جزءا من استراتيجية بوتين منذ غزوه لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022، وتلويحه بالخيار النووي أمام الغرب.
في الوقت نفسه يعمل أصدقاء بوتين في بكين على بناء ترسانتهم النووية بسرعة. فالصين تمتلك حاليا حوالي 500 رأس حربية نووية، ويبدو أنها ترغب في مضاعفة هذا الرقم بحلول 2030، على أن تصل إلى معادلة الترسانتين الأمريكية والروسية خلال العقد المقبل. وتمتلك الولايات المتحدة حوالي 3708 رؤوس نووية منها حوالي 1770 رأسا محمولة بالفعل على صواريخ باليستية أو موجودة في قواعد الطائرات القاذفة. وتمتلك روسيا ترسانة مماثلة تقريبا.
وقبل كل ذلك يمكن أن يلقي الزعيم الكوري الشمالي كيم يونج أون حليف موسكو وبكين وطهران في كراهية واشنطن “بمفاجأة أكتوبر” في موسم الانتخابات الأمريكية ويجري تجربته النووية السابعة منذ 2006.
وفي الوقت نفسه، وفي ظل التوترات الجيوسياسية الحادة بالشرق الأوسط يمكن أن يقدم نظام حكم الملالي في إيران على الكشف عن قنبلته النووية ليصل عدد الدول النووية في العالم إلى 10 دول.
ويقول كلوث إن هذه الفوضى العارمة بمثابة تذكير سيء لهاريس واترامب بأن أشجار قراراتهما تحتوي على فروع تزيد على تلك التي واجهها أي رئيس أمريكي سابق منذ نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، حتى إذا تم تبسيط هذه السيناريوهات إلى مواجهة بين خصمين رئيسيين، فإن واشنطن تواجه مشكلة مزعجة “ثلاثية المحاور”.
فالصداقة “غير المحدودة” بين روسيا والصين تثير خطر “العدوان المشترك” على الولايات المتحدة كما توصلت إلى ذلك لجنة تابعة للكونجرس، بأن الدولتين يمكن أن تتحالفا ضد واشنطن. لذلك فالرئيس الأمريكي القادم قد يضطر إلى التفكير في أن الترسانة الأمريكية لا يجب أن تردع فقط موسكو أو بكين كل على حدة، وإنما يجب أن تكون قادرة على التصدي لهجوم ثنائي منهما. معنى هذا أن الولايات المتحدة تحتاج إلى مضاعفة حجم ترسانتها النووية.
ولكن إذا بدأت واشنطن زيادة ترسانتها، فإن بكين وموسكو المصابتين بجنون العظمة ستسارعان بزيادة تسليحهما وبالتالي تضطر الولايات المتحدة لزيادة ترسانتها مجددا وبصورة أسرع. وسيكون السؤال هو هل يمكن للولايات المتحدة الفوز في سباق التسلح الناتج عن هذا النهج، وما هو شكل هذا الفوز؟.
ويرى اندرياس كلوث أن الجانب المالي في مثل هذا السباق المرفوض يمثل عنصرا مهما، رغم أنه قد لا يبدو كذلك عند الحديث عن تهديد وجودي في حال نشوب حرب نووية. فحتى بدون سباق تسلح جديد تحتاج الولايات المتحدة إلى أكثر من 5ر7 مليار دولار سنويا لتحديث ترسانتها النووية الحالية، وهو ما يعادل أكثر من 8% من ميزانية الدفاع.
على سبيل المثال تحاول وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إحلال الصواريخ القديمة طراز مينتمان بنوع جديد يسمى سيتينال. وقالت البنتاجون في الشهر الماضي إن تكلفة هذا البرنامج زادت بنسبة 81% عن التقديرات الأولية واحتاج إلى ثلاث سنوات أكثر من التقديرات لاتمامه. كما تواجه برامج تطوير الغواصات والقاذفات والرؤوس الحربية الجديدة مشكلات مماثلة.
في ضوء هذه الأرقام يمكن تصور التكلفة الهائلة التي ينطوي عليها الانخراط في سباق تسلح نووي جديد ليس ضد دولة واحدة وإنما ضد دولتين وهما روسيا والصين. وقد تأتي هذه التكلفة على حساب القدرات العسكرية الأمريكية غير النووية أو الطموحات الاقتصادية الأمريكية الأخرى. كما يمكن أن يصبح المجتمع الأمريكي أضعف في مواجهة أعدائه عن ذي قبل. وبعد ذلك فإن هذه الأسلحة النووية في النهاية غير مجدية، لآن الفكرة وراء الردع النووي هي عدم استخدام هذه الأسلحة أبدا وتحولها إلى خردة في نهاية المطاف.
ورغم ذلك يمكن القبول بهذه التكلفة الهائلة إذا كانت فعالة بالفعل في تحقيق الردع. فهل هي كذلك؟ يرى بعض أعضاء الكونجرس أنها كذلك، في حين يرى آخرون بينهم مادلين كريدون أنها غير فعالة وتقول “عندما يقول الناس إنه علينا امتلاك نفس عدد الأسلحة النووية التي تمتلكها الدول الأخرى مجتمعة، فهذا كلام فارغ، وليس له أي منطق على الإطلاق”.
وترى الإدارة الأمريكية الحالية “أننا لا نحتاج إلى زيادة قواتنا النووية لكي تماثل أو تزيد على القوة النووية لكل منافسينا مجتعمين حتى تكون ناجحة في ردعهم”.
فالأسلحة النووية ليست مثل قذائف المدفعية ولا الطلقات ولا الطائرات المسيرة “درون” التي يمكن للجيوش المعادية مواصلة إطلاقها على بعضها البعض. فمبجرد استخدام طرف لقنبلة نووية واحدة، سيرد الخصوم نوويا لتتصاعد المواجهة النووية بقرارات تتخذ في أجزاء من الثانية. وسواء بدأت الحرب النووية باستخدام قنبلة نووية تكتيكية محدودة أو بقنبلة استراتيجية، فالانفجار الكبير سيقع ليدمر الجميع.
ففي مثل هذا السيناريو يكفي وصول عدد محدود للغاية من الرؤوس النووية من كل طرف إلى أرض الطرف الآخر حتى يتم القضاء على حضارات كاملة والتسبب في كارثة بيئية وغذائية عالمية لا حدود لها. فالردع لا يرتبط بعدد القنابل النووية التي تمتلكها الولايات المتحدة أو أعداؤها، وإنما بثقة كل طرف في أن الطرف الآخر يستطيع الاحتفاظ بجزء من ترسانته النووية بعد تعرضه للضربة الأولى لكي يستخدمه في الرد، وبالتالي تتعرض الدولتان للدمار الكامل.
ويقول كلوث إن شبح سباق التسلح الجديد يذكره بالاستعارة التي رسمها عالم الفلك كارل ساجان أثناء الحرب الباردة عندما قال “تخيل غرفة غارقة بالبنزين وفيها خصمان، الأول لديه 9000 عود ثقاب والآخر لديه 7000 عود. وهم كل واحد منهما هو التفوق على الآخر في امتلاك أكبر عدد من أعواد الثقاب باعتباره الأقوى مع أن الأمر لن يحتاج إلى أكثر من إشعال عود ثقاب واحد لكي يتلاشى وجود الخصمان ومعهما الغرفة كلها”.
ويضيف كلوث أن الاختلاف الآن هو أن الغرفة لم يعد فيها خصمان وإنما ثلاثة خصوم وهم الولايات المتحدة وروسيا والصين. لذلك فسواء كان ترامب هو الرئيس أو هاريس، فسيكون على الولايات المتحدة العمل بكل جد من أجل تجنب نشوب سباق تسلح نووي جديد لآن المخاطر الآن ربما تفوق ما شهده العالم في سنوات الحرب الباردة.