صناعة الشهرة بين المحتوى والأرقام
كتب: د. موسى علي حمد
سيطرت وسائل التواصل الاجتماعي على حياة الناس، واقتحمت عليهم بيوتهم، وتغيرت رؤى ومفاهيم كثيرة.. ومنها صناعة الشهرة التي باتت أكثر سهولة ويسرة حيث تبدلت المقاييس والاشتراطات وصغرت الهمم فليس هناك حاجة لسجل حافل بالإنتاج والإنجازات ، أو موهبة فائقة وكثرة مؤلفات.. إنما غدت الشهرة بعدد أرقام المتابعين والمعجبين..
كانت النجومية في الماضي جلها محصورة في الرياضة والغناء، ثم دخل على خطوط الشهرة مشاهير المواقع الذين روجوا لبضاعة غريبة ومفاهيم مستوردة مثل تحديات الثلج والملح مروراً بسلفي ورقصة البطريق وكيكي.. وليس لهذه الصرعات إلا القفز إلى الشهرة والبحث عن المتابعين، على الرغم مما فيها من هدم للقيم واستهتار بمشاعر الناس وأذواقهم..
لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً «الفيسبوك»، و»الإنستغرام»، و»السناب شات»، في انتشار ظاهرة «الفاشينيستا»، حيث تبنى بعض المشاهير الدعاية لمنتجات وماركات تجارية بدافع التسويق ، ومع ازدياد أعداد متابعيهم، وأغلبهم من فئة الشباب والمراهقين، تنبهت الشركات إلى القوة الجماهيرية التي يحظى بها هؤلاء فسارعوا إلى التعاقد معهم من أجل تسويق منتجاتهم..
إن مواقع التواصل صارت مولعة بهوس المتابعين، ووجدت في سوق الجوالات الدجاجة التي تبيض ذهباً فاخترعت «الريتنغ»، وعمدت لمنح إشارة زرقاء للحسابات الأكثرعدداً وأسمته «علامة التوثيق»، وهذه الإشارة ليست لمشاهير فحسب بل إلى أي مسمى في هذا الكون حتى أن صورة بيضة ـ بدعوى تحطيم رقم عالمي ـ تخطت 47 مليون إعجاب بعد 13 يوما.. ؟!
لقد أصبح مشاهير التواصل الاجتماعي فئة مؤثرة، ولم يقتصر تأثيرهم على الترويج لمنتجات غير مرخصة وغير مفيدة، بل إن سلوكهم الخاطيء وعرض حياتهم الخاصة بصورة مبتذلة، بدعوى أنها حياتهم الطبيعية ومفاخرتهم فيما يأكلون ويلبسون، كما لا يضيرهؤلاء المشاهير أن يوظفوا الأطفال والنساء وحتى الشيوخ من أهلهم فيما يعرضون من مقالب وتحديات ومهازل .. فلا تردعهم الضوابط الأخلاقية ولا القيم الدينية ولا المفاهيم الاجتماعية، فلا خطوط حمراء أمام تسويق بضاعتهم للوصول إلى أكبر عدد من المتابعين ..
هناك مشاهير ينحتون أجسامهم حتى يثبتوا جماهريتهم في وسائل التواصل، ويبرعون في برامج الخداع وتعديل الصور ويلبسون على الناس لإخفاء العيوب، والظهور بمحتوى بصري يجذب المتابعين لحصد الأرقام، فقد زعم أحد المشهورين في «سناب شات» أنه استخدم المعجون لمدة 15 يوماً وقام بفتح فمه للمتابعين لتظهر أسنانه لامعة ناصعة البياض خلال الإعلان، لكنه غفل ولم يستخدم «الفلتر» في الفيديو الثاني فظهرت أسنانه على حالتها الطبيعية ليتم اكتشاف أمره.. وطالما حملت الأخبار مشاركة الكثيرين من المشهورين في الترويج لمنتجات زائفة ورديئة مع تورط بعضهم في غسيل الأموال وتجارة المخدرات حتى صار تورم حساباتهم محط رصد واستفهام .
إن القواعد الكبيرة من المتابعين والتي أغلبها من صغار السن ، باتت تحت تأثير وتخدير هؤلاء المشاهير فتقليدهم في سلوكهم وأنماط معيشتهم ومتابعتهم مشاركة في نشر المفاهيم الخاطئة والأخلاق الذميمة.. وأكثر من ذلك عندما يتعصب المتابعون لهم فيزداد الطين بلة.. كما أن مجاراتهم تحت أضواء الشهرة الزائفة وتأليب الشباب والمراهقين على آبائهم وأمهاتهم، بزعم التحرر من وصاية الوالدين هي دعوة لهدم الأسرة وتمزيق النسيج الاجتماعي طالما أدت إلى مشاكل أسرية وصدمات نفسية وأمراض خلقية وشق على الأباء والمربين التكيف مع غثائهم والتهرب من متطلباتهم ..
نحن لا نرفض العالم الافتراضي بل هو عالمنا الذي لانستطيع الهروب منه.. ولكن نحن الذين نسخره ونوظفه للاستفادة منه، كما يفعل بعض الكرام من المشاهير ممن استغلوا شهرتهم للترويج للقيم الإنسانية والأعمال الخيرية والعلوم النافعة ..أو ممن اتخذوه مصدر رزق لهم لكن أخلاقهم ومبادئهم كانت حاضرة في انتاجهم فقدموا مادة مفيدة ومعلومات قيمة..
إن اتخاذ القدوة هو فن بحد ذاته، وحياة القدوة تؤثر على الناشئة ويلعب الاعلام دوراً في تزييف الحقائق وإعطاء هالة من التعظيم للمشاهير، فيما يفتقد الشباب إلى من يدلهم على المعايير الصحيحة للقدوة ..
تظل سلطة وسائل التواصل الاجتماعي أشد قسوة من الأنظمة الاستبدادية، لأنها صنعت ملايين السوائم والقطعان من الناس وشكلتهم وأدلجتهم وفق قوانين العالم الافتراضي مع قوافل من الطامعين بالشهرة والمال الذين ليس لهم سوى كثرة المتابعين وحصد الأرقام وبعده المال والمال فقط ..
د. موسى علي حمد